أتذكره الآن..
وتذكرته حين كنت أرد..
حسناً، أعترف بأني لا أعرف الجواب الحقيقي المطلق بعد، ولكن أعرف (الإطار العام) الذي يفترض للجواب أن يكون منه، المفتاح الذي يدل على الجواب أو على الطريق المؤدية له.
وهذا يعني بالنسبة لوعيي على الأقل، أن باب المخرج موجود، وطلب البحث ممكن...
إن الحقيقة النهائية وراء أي ظاهرة أو موضوع أو سؤال هي ما يعنيه هذا الموضوع-السؤال-الظاهرة وفقاً لموقعه ضمن إطار الحقيقة الكبرى (الرؤية الأشمل) وبالنسبة لها ، ومن أجل تعريف معنى الرقم 2 يتم استخدام العلم بمعنى (مجموعة الأعداد الطبيعية) وقبل ذلك : "معنى الرياضيات" وهي الإطار الذي يمكن الاستناد إليه لفهم وكشف معنى الرقم 2 والذي بدونه يكون الرقم 2 رمزاً لمجهول.
"اليشم" حجر كريم أخضر، تعريفه يحتاج إلى إدراك معنى "الفلزات" و"الأحجار الكريمة" وهذه المعاني هي الإطار الذي يأخذ اليشم منه معناه، أما الإحساس المادي بحجر اليشم كموضوع، دون إدراك معنى الحجر الكريم أو الفلزات سيؤدي إلى فهم خاطئ لما يعنيه هذا الحجر، وسيكون المظهر معدوم المعنى، وبالتالي يحتمل جميع المعاني، قد يكون هذا الشيء اسفنجة متحجرة أو كائناً غريباً، قد يكون حتى حالة من التصرم الزمني المنقطع عن البيئة، لا يمكن التكهن بحقيقة الموضوع دون إسناده إلى الإطار المناسب.
ولو كنا سنحاول معرفة معنى "الأحجار الكريمة" فسنردها إلى إطار "الجيولوجيا" أو "الطبيعة المادية".. أما إذا تم جمع الأحجار الكريمة ولم يتم استقراء واستخلاص الصفات المشتركة فيها والتي تميزها عن بقية عناصر فئة الجيولوجيا، فستكون مظاهر غامضة لا يمكن معرفة أي شيء عنها.
هناك هرم من المستويات التي يعتمد المعنى الباطني للموضوع الظاهري عليها كإطار يأخذ منه طبيعته، وماهيته، وأحواله ، وفاعليته، ووجوده وتكوينه.
معنى "الطبيعة المادية" أيضاً يحتاج إلى تعريف، وإلا، لا يمكن التفريق بين المادي واللامادي، وبالتالي يمكن أن يكون الروح مادياً وبالعكس، ومثل هذا المعنى الكلي جداً يمكن تعريفه ضمن إطار أشمل من العالم الظاهري وهو ( الوجود ) بحيث يكون معنى "الوجود" هو القاعدة التي يمكن من خلالها التمييز بين الطبيعة المادية والطبيعة غير المادية، بما أن الاثنان يشكلان فروعاً منه، "الوجود" هو الذي يجمع المادي واللامادي معاً في الانتماء الأعمق.
وكذلك تعتمد إجابة السؤال على فهم "الإطار الوجودي-المعنوي" الخاص بموضوعاته، فإذا كان السؤال يخص موضوعات رياضية (( هل هناك جذر للعدد السالب ؟ )) فإن إطار تأويل وفهم السؤال ضمن إطار المعنى المباشر (الرياضيات) ، أو .... إطار أكبر وأشمل منه (الكون-الوجود) سيؤدي إلى اتخاذ السؤال معنى، لكن هل يمكن فهم السؤال بإطار التاريخيات أو البيولوجيا ؟
الكشف عن الإطار الوجودي-المعنوي الذي تنتمي الموضوعات إليه هو مفتاح إجابة السؤال، إدراك ماهية الإطار الذي يوجد أفق السؤال ضمن إحداثياته يؤدي إلى إسناد الجواب لنفس الإطار، وتحديده، وإيزانه .. وبالتالي سيكون لدينا علاقة واضحة بين السؤال والجواب، مما يجعل الجواب حقيقياً.
المعنى الأكبر (القاعدة الوجودية)، واتخاذ ذلك المعنى إطاراً للوصول إلى الحقيقة، أهم وأولى من البحث مباشرة عن الجواب قبل فهم الإطار الذي يتم البحث فيه، وهذا الإطار المعنوي-الوجودي ينقل الإجابة من مقام "الاحتمالية (الرأي)" إلى مقام الحقيقة (الإطلاق). فحين يكون السؤال المباشر : هل 1+1=2 فسيكون السؤال العميق هو : على ماذا استندتَ بجوابك، أياً ما يكون ؟
ما هو "الإطار" الذي يبرر صدق أو كذب قضية 1+1=2 ؟
ما الذي يعنيه ذلك أصلاً ...
الناس يحبون الإجابة العاجلة، دون إتعاب أنفسهم في البحث عن العلة من وراءها..
هذا ما وجدوا عليه مؤسسي حضارتهم...
وهذا ما يجعل أجوبتهم تفتقد العمق والمنهجية، وغالباً ما تخلو من المعنى وتستحيل إلى أدوات تنظيمية وظيفية على صيغة "أوامر ونواهي" أو "توكيدات"...
نعم - لا
هذه ليست أجوبة، بل توكيدات ...
هذه أيضاً طريقة التعليم التلقينية.
الفلاسفة يحاولون إيجاد إطار (مرجع إدراكي) للكشف عن معاني السؤال، وغالباً محاولاتهم تنذر بنتائج مستحيلة ...
مثل أنه لا يوجد أصلاً إطار (الذرية) أو أن الإطار إجراء ذهني (الوضعية) أو أنه حالة وجودية نسبية (أنطولوجيا هيدجر) وهو الاتجاه نفسه تقريباً الذي يتخذه ابن عربي حين يتحدث عن رمزية الواقع ولانهائية التأويل.
بعض الفلاسفة استنتجوا أن البحث عن إطار هو "ترف فكري" مقوض للحياة ومضيعة للوقت (ألبير كامو) وبالتالي لا داعي للتساؤل ولا للإجابة... والغريب أن تعليله لذلك مقنع جداً، ولكن هناك شيء ما يجعله تعليلاً عبثياً، نقطة معينة لا يستطيع فهمها باشكل الصحيح، تقلب النتائج رأساً على عقب.
هل هناك علاقة بين الموضوع والإطار ؟ هل يمكن معرفتها ؟ هل يمكن أن يكون لها قيمة ؟
إذا كان الموضوع محدوداً ضمن نوعه (مثل سؤال عن تأثير فيتامين ب17 على مرضى السرطان) فسيكون من السهل الكشف عن علاقة الموضوع والإطار وسيكون هناك منهج معين يمكن من معرفتها وسيكون لها قيمة عملية.
لكن إذا كان الموضوع وجودياً (مثل السؤال عن معنى الحياة) فستكون الإشكالية في تحديد الإطار ، وليس في تحديد الجواب (كما يعتقد الغالبية)...
لا أحد من الفلاسفة سيشغل باله بإنكار العلاقة بين تأثير ب17 على مرض السرطان وبين الإطار المسمى بالطب الحديث، لأن هذا التأثير سيكون صحيحاً أو خاطئاً ضمن الصورة الجزئية الصغيرة، المنهج الطبي، ولكن "التعمق إدراكياً" في هذه العلاقة سيجعل الأمر أسطورياً بالنسبة للإنسان، مثل رد هذا السؤال إلى إطار فلسفة الوجود، الذي يجعلنا نتساءل عن مدى يقينية تأثير المواد على بعضها أصلاً، وما إذا كان ذلك ناتجاً من الواقع الموضوعي حقاً أو من عقول وتوقعات المراقبين ؟!
بالعودة إلى السؤال الأصلي :
فلو سألتيني : هل الحياة ظالمة ؟ فكل جواب ممكن سيبقى رأياً يصيب بحالات ويخطئ بحالات اعتماداً على السردية التي يتم الرجوع إليها كإطار للجواب. وهذا ما تعنيه "الحقيقة النسبية".
إلا إذا كان الجواب معتمداً على ما تعنيه (الحياة) بالمطلق و(الظلم) بالمطلق وكشف العلاقة الأصلية بينهما، وكأن الجواب المطلق يجب أن ينبع من معاني السؤال نفسه، ليكون أقرب للتحليل من التركيب وللكلانية من الجزئيات، وأنه كلما اقترب الجواب من ملامسة الأصول والمنطلقات كلما كان الجواب حقيقياً، وكلم اعتمد على الخبرات والتجارب كان نسبياً.
عندما نبدأ من التجربة (الوجود بالفعل) مباشرة نصل إلى الصورة المتاحة ضمن حدود أفق التجربة المعاشة من قبلنا، ولا يمكننا تجاوزها لأن كل تجاوز لها سيخرج عن دائرة الوجود الفعلي، وسيبدو شيئاً أحلامياً، ليس واقعياً.
هل سيفهم الجندي في أثناء المعركة قول الكاهن له : "أنت تعيش في مصفوفة" ؟
هل يهتم "البُرعي" بما يقوله المثاليون عن أن أصل العالم حيوي ويمكن إعاة تشكيل الزمن الظاهري بالتفاعل الحيوي الباطني ؟
لن يفهموا، أو بالأحرى لن يسمحوا لأنفسهم بالتفكير هكذا، ودائماً ليس لأنهم غير قادرين على الفهم أو لا يملكون التأهيل اللازم، بل لأنهم سجناء سردياتهم التي لا يمكنهم ولا يرغبون التخلي عنها.
لا يمكن الوصول إلى الحقيقة بخصوص أي شيء من إطار قصة صُغرى، كقصة حياتك الحالية، إلا إذا تمت إذابة مادتها وتحليلها في الحكاية الكبرى (الكون-الحياة-الوجود) حتى تستخلصي منها الجوهر ويذهب الزبد جفاء.
لأن السردية التي يتم اقتطاعها عن أصولها الوجودية المطلقة، تسمح بالبدء من اللاشيء، واللاشيء يوصل دائماً لنتائج تعتمد على التأويل الشخصي، لأنه لا يمكن الكشف عن العيار المتعالي على السرد نفسه.
الحقيقة لا تُدرَك من خلال السرد، بل من خلال إذابة السرد في الإطار الكلاني بحيث يتم تنقيته واستخلاص الذهب الروحي منه.
ما الذي أحدث الانقسام ؟
لابد أن نجد الجواب في معاني السؤال.
أولاً .. إلى أي إطار ينتمي الانقسام ؟
أو (التفريق) بين الروح الذاتية والحقيقة الموضوعية هو حدث أعم من الوجود المادي، لأن الماديات هي المظاهر التي يغيب باطنها عن الذات، فهي نتيجة من نتائج الافتراق بين الذاتي والموضوعي، ولو اختفى الافتراق فستفقد المادة معناها.
لم يحدث التفريق ضمن العالم المادي مباشرة ولكنه كان الأساس التي يعتمد الوجود المادي عليه ... أي أن الإطار الذي ينتمي إليه التفريق يوجد في "ما وراء العالم المادي" في النظام الذي يحكم هذا الوجود، إنه الإطار المسمى بالميتافيزقا.
الحياة التي نمر بها الآن لها نظام تكويني شَمول ينبعث منه سرديات لانهائية (قصص صغرى) والنظام التكويني لهذا العالم سيكون معنا أينما كنا وكيفما كانت تفاعلاتنا ووجهاتنا، على عكس السردية التي تخص شخصيتها دون غيرها، والسرديات نمر بها بمحض اختيارتنا للإمكانيات التي تتيحها الحياة لنا ، النابعة من النظام الشمولي الأكبر.
النظام الأكبر ينطوي على منطلقات الحياة التي نحياها بما هي كذلك، مثل المعاني الأولية مثل الذات والوجود، والزمن، والمكان ، ونحو ذلك .. وقوانين الهرمسية (الانعكاس والتناظر والقطبية...) و قوانين المنطق الأساسية (امتناع التناقض-الهوية-الثالث المرفوع...) فهذه المنطلقات موجودة في (ال)حياة، دائماً حاضرة ، مهما اختلفت السرديات، وجميعها حاضرة مهما اختلفت القصص التي سنمر بها.
هناك "نظام عميق" يحكم العالم ويؤسس أشكال وسرديات الحياة التي نعرفها.
وحدثية الانقسام لم تكن ضمن (هذه الحياة-التي نعرفها) - بل كانت "سبباً لهذه الحياة" كما نعرفها، أي أن افتراق الذات والموضوع، الذي يولد "زمن الغياب" على نحو مستمر، هو "مبدأ وجودي" مثله مثل المكان والزمان وقوانين المنطق، وقع حدوثه قبل وجود الكون، بل كان أحد الأسباب التي أوجدت تنظيم كوننا الحالي بهذا الشكل بالذات، مما يعني أنه وقع في عالم آخر (أوسع) له أبعاد أخرى (أطلَق) وهندسة وجودية تختلف، ولكنها تحتوي هندسة هذا العالم كما لو كانت نقطة منها... والمعاني التي تكوّن ذلك العالم قد لا يمكن فهمها ضمن (إطار العالم الموضوعي).
ولكن لماذا لا نتواصل مع ذلك العالم الكلاني ؟
إلى حد بعيد جداً، الإجابة هي أن الحياة التي نحياها محكومة بنظام هذا العالم، وهذا النظام يمنع التواصل مع ما وراءه وما يتجاوزه، مثلاً، إدراك الإنسان للمكان نقطي وللزمان لحظي، إدراكه لما وراء المكان والزمان عقلي، تصوري، بالكاد يمكنه تحسس المعاني الكُبرى أو التخاطر من حين لآخر، وهذه (الحدود الوجودية) على ماهية الإنسان، أسّس لها نظام الكون الحالي، وما أقصده هو النظام الذي انبعث منه هذا الكون، لأنه نظام لم يكن ليسمح بإدراك زماني متصل أو مكاني متصل، لأن الاتصالات والتفاعلات المتاحة ضمن الكون تتسم بالمحلية والتناظرية، ومهما كان شكل الكائن، طالما انه ينتمي لنظام الكون الحالي، هناك حدود لا يمكنه تجاوزها، حدود لا تعتمد على البايولوجيا، بل هي حدود (ل) البايولوجيا.
الزمن الموضوعي لا يبدو لي شريطاً مفتوحاً من الأسباب التي تنتهي إلى نتائج، ولكن يبدو وكأنه لعبة فوق-إلكترونية لها مسارات محددة مسبقاً ، يؤدي كل اختيار إلى التحرك في مسار فرعي من مسار أصلي، إلى أن نصل إلى النتيجة النهائية من عدة نتائج ممكنة، أو أنه محاكاة نظام ميتافزيقي-كهربائي، لا أدري كيف أشرح ذلك، ولكني أؤمن أن مفهوم "الأنا والآخر" و"الخير والشر" و"العبد والسيد" له معنىً فقط ((ضمن)) هذه المنظومة الكهروميتافيزفيقية وحسب إطارها، وإذا خرجنا عن إطار العالم المتولِّد من هذه المنظومة فسنجد ((عالماً آخر))، له معاني أوسع وأعمق وأكبر، منبعثة من منظومة أشمل وأقرب للحقيقة، أي وكأننا استيقظنا من حلم عميق جداً بعد أن كنا راقدين في عالم الحقيقة.
إذن، السبب الذي أحدث هذا الانقسام سيكون موجوداً منظومة أعلى وعالماً مختلفاً تماماً بحيث أن لغتنا لا تعبر عنه، ولكن ذلك العالم ((ليس)) هو ما يختبرونه في المستويات الروحانية العالية مثل السامادهي، بل هو عالم آخر بكل ما تعينه الكلمة، أي ، واقعياً، روحياً، مادياً ، عقلياً ، منطقياً ... إنه فقط كبر من هذا العالم، وأياً يكن السبب الذي أحدث الغيبة فإنه ينتمي إلى ذلك العالم.