أجل ...
صعوبة إدراك المعنى الروحي إدراكاً واضحاً ومحدداً هو سبب الحالة الضبابية التي تطوّق العلوم الروحية وتجعلها تبدو فاقدة للفاعلية والجدوى وكأنها "أفكار مجرّدة".
عدم اتصال الوعي بالموضوع يجعله خارج مجال التفاعل.
عدم إدراك معنى الروح يساوي عدم القدرة على التفاعل معها.. إذا كان الوعي يدرك معنى الروح ولكن لا يسميها باسم معين فهو قادر على التفاعل معها، إذا لم يكن قادراً على إدراك "المعنى" الذي يسمى بالروح فلن يستطيع التفاعل معه حتى ولو كرر الاسم إلى الأبد.
يميل المتدينون في هذا الموضوع إلى المذاهب الروحية لأنها تدعم افتراضاتهم الدينية ضد المادية ، لكن هذا نوع من توظيف الروحية في خدمة الانتماء الديني ، فهم ليسوا روحيين جوهرياً ، لكن منظومة معتقداتهم التي يسلمون بها وراثياً تقتضي منهم هذا التوجه.
المتدين هو مادي زاد عليه بناء عقلياً من الافتراضات والمعتقدات المسلم مسبقاً بصحتها والمتعلقة ببقائه ومجتمعه.
المتدين لا يملك ميولاً روحية حقيقية لمجرد أنه ينتمي إلى الدين ...
هذا الأمر أوضحه ، حتى نعلم أولاً أن "المذهب الروحي" هو أقل المذاهب شيوعاً واتباعاً في العالم ، وثانياً الميول الروحية تختلف عن الميول التّدينية ومن الصحيح ، أن الدافع نحو الانتماء الديني هو "الخوف من المجهول" ، ومن الخاطئ اعتباره هو نفس الدافع نحو البحث الروحي ، وإن الانتماء الديني يريد وضع قواعد نهائية ، والبحث الروحي يريد التحرر من القواعد ، ومعنى الروح يتجلى للباحث الروحي من فرط تحرره من القيود والقواعد المسبقة على المعرفة والإدراك ، فهو يرفض أي شرط مسبق يوجه معرفته أو إدراكه للوجود ، ويبني معرفته بنفسه بكل حرية وانفتاح ، فتأتي مفاهيمه عن الروح من قوة نفاذه من أقطار الأرض المادية.
لذلك لا يستوي معنى الروح بالنسبة للباحثين الروحيين وبالنسبة للمتدينين ، ومن المستحيل المساواة بين مفهوم الروح الناتج عن الاتباع الديني للكتب المقدسة والأنبياء الذين أكدوا وجودها ، ومفهوم الروح الناتج عن البحث الحيوي الحر عن الحقيقة خارج دائرة الاشتراط والمادية والذي يسمح للوعي أن يلامس ما وراء المجال المادي.
هدف العلم الروحي هو الوصول المنهجي إلى معنى الروح بحيث يكون متجلياً للإدراك وذا قيمة في الوجود.
يفصل الإدراك الروحي بين "العالم المادي (الظاهر)" وبين الحقيقة المطلقة، ويفصل بين ما هو حقيقي على شرط الظاهر وما هو حقيقي بذاته.
ظهور الشيء للإدراك ليس أكثر من "رصد الصورة" ومن الممكن اعتبار العالم الذي يظهر في "الحياة الإنسانية" لفرد واحد، صورة هائلة متشعبة ومعقدة، ولكن الصورة موجودة ضمن حدود الصورة وفقط، بغض النظر عن مدى إقناعها وتعقيدها.
على هذا الأساس ، لا يمكن البحث عن الحقيقة المطلقة ضمن المجال المعرفي الذي يوفره ظاهر العالم.
الوجود الظاهر والوجود الباطن منفصلان في الإدراك ومتحدان في الوجود، يمكن إدراك أحدهما دون إدراك الآخر ، لكن لا يمكن وجود أحدهما دون وجود الآخر.
كما أن الباطن ليس مجرد (ظاهر أكثر تعقيداً) فالناحية الموضوعية من الخلايا الحية أو من الذرات والجسيمات الذرية ليست (باطناً) ولكنها ظواهر يصعب إدراكها أو الكشف عنها بطريقة بسيطة.
الذبذبة الفيزيائية والفوتونات الضوئية وأمواج الصوت والأشعة الكونية، (ظاهر) ولكن رصده ودراسته عمل معقد، إما لأن هذه الظواهر سريعة جداً بالنسبة للراصد، أو صغيرة جداً، أو نادرة جداً... لكن خفائها سببه قصور أجهزة الرصد المادي.
خفاء الباطن (الإيزوتيريك) وغموضه لا يتعلق بمستوى قدرات الراصد أو أجهزة القياس،
ووجود الباطن والظاهر بل أن العالم الظاهري لا يكفي لتفسير نفسه ولا يشكل نظاماً مغلقاً ، أن الظاهر نفسه يؤدي إلى إدراك اتصاله بالباطن واعتماده عليه ، عندما يتم التأمل العميق فيه.
المعاني المحددة جداً والواضحة جداً، بالنسبة للمذهب الروحي، تستمد وضوحها وتحديدها من ضعف اتصالها مع الحقيقة الجوهرية للوجود، فهي لا تحتاج للتأمل من أجل إدراكها، وهذا يعني أنها لا تحتاج إلى أن تكون "حقيقية" أو يتم السؤال عن مدى قيمتها وجوهريتها.
أي أنك حين تريد وضع "تعريف واضح ومحدد" للروح، فإنك تلغي إدراك معنى الروح الحقيقي.
المنطلق الأساسي للرؤى الروحية هو أن "المعاني الروحية تُدرَك روحياً" : فالمعنى الذي تشير إليه كلمة مثل "الروح" أو "الحقيقة" أو "الجمال" أو "الذات" أو "الله" ... حقيقي في مستوى وجودي آخر، يختلف في تكوينه وإحداثياته عن تكوين المستوى المادي المنظور وما تسمح به آفاقه الزمكانية من المعاني.
طريقة الاتصال بالمستوى الروحي هي ما يوصلك إلى المعاني الروحية، وهذه الطريقة متعالية، يمكننا تسميتها بالإدراك الروحي ، وهو إدراك موجه نحو الجانب الحيوي والقيمي من الواقع ، أو نحو أبعاد ومجالات وجودية أخرى ، ولا يمر الإدراك الروحي بالعالم المادي أولاً، أي : لا يمر الإدراك بالحواس المادية أولاً ، ولا يعتمد على رصد شيء مادي ثم "الانتقال ذهنياً منه إلى ذلك الوجود العُلوي" بل على إدراك المستوى الروحي لأي معطىً كان، مباشرة (هل هذا الشرح واضح كفاية ؟...) ، ولذلك تبدو تلك "المعاني الحيوية" مفقودة أو "ذائبة" إذا تم البحث عنها في المستوى المادي.
_______________
بالنسبة للإنسان الذي يبحث عن معنىً يشابه المعاني المتحصلة من الاتصال بعالم المادة فإن الروح ستبدو له شيئاً هلامياً غير مفهوم وغير محدد ويمكن ربطه بمعاني كثيرة ، يجمع بينها كونها (غير مفهومة).
لكن من يتوجه نحو البحث الروحي ، أصلاً ... لا تروي المادة بكل ما فيها ضمأه العلمي .. إنه يبحث عن إجابات أخرى ، إجابات كاملة ، مطلقة ، كلانية ... بعيدة عن الإجابات التي يوفرها عالم المادة.
المشكلة الجوهرية في المعرفة المادية (بالنسبة للباحث الروحي) أن الموضوعات المادية (التي تبدو لك محددة وواضحة جداً) لا تحمل معاني قادرة على التعامل مع الأسئلة التي يطرحها الباحث الروحي، أو تحقيق رغباته، أو إعطائه القوة التي يحتاجها.
إن المعاني المحددة والواضحة مثل (هذه الطاولة) و (هذا الكرسي) تأخذ وضوحها وتحديدها من سهولة إدراكها لأنها معاني "مُتلقاة" وكل ما يلزمك هو تلقيها كما هي عليه دون التحقيق جدياً فيها، وحين نقول (هذه الطاولة) فنحن نقصد البُعد المرئي منها، ضمن حدود الوظيفة المعروفة عنها وهي حمل أشياء صغيرة في الغرفة ، إن هذا المعنى المركب من موضوع محسوس وتأويل عقلي له ، هو ما تعنيه كلمة (هذه الطاولة) بحيث أن الإدراك يتوجه مباشرة نحو المجال الذي يتيحه هذا التركيب.
تتكوّن المعاني المُركبة من (المعطيات الحسية الموضوعية) القادمة عبر منافذ الجسم المادي، و(الإطار الذهني) الذي يعيد قولبة وتوجيه هذه المعيطات بحسب الحقل الدلالي الذي يتبناه العقل، فترى الطاولة ببُعدها المادي وتقوم بتأويله بناء على معتقداتك المسبقة، وبهذه الطريقة تحصل على "معنىً محدد وواضح".
إذا حذفت المعطيات الموضوعية المحسوسة من المعاني المركبة فستحصل على كلمات جوفاء، يوجد مفهوم ذهني ولكن لا يوجد شيء "يحمله"، يوجد مفهوم فكري عن "الطاولة" وهو ما يسمى عادة بال"المجرّد" وبالطبع هو ليس مجرداً، إنه محض "فكرة ذهنية"، أما التجريد فله معنىً آخر..
إذا حذفت التأويل الذهني فسيبقى موضوع مادي بلا حدود مبدئية ، بلا قالب وظيفي مسبق ، بلا تعريف ... إذا حذفت (ما تعنيه الطاولة ذهنياً) فسيبقى بناؤها المادي الموضوعي، والذي قد يمثل أي شيء وقد يكون له أي امتداد وجودي، إذا تم إدراك الموضوع المادي دون الحكم ذهنياً عليه على نحو مسبق، فيمكن تجريده من ماديته ، إنه لا يكون مادياً بالمعنى المتداول، لأنه لن يكون مشتملاً على صفة (الثبات) و(الصلابة) و(الانعزال) و(اللا حيوية).
دون تأويل ذهني وأحكام مسبقة، ربما تكون هذه الطاولة حية بالضبط مثلك، ولها منافذها الحسية، وتتخاطر، وقد لا تكون نفس الطاولة التي تعرفها قبل عدة أيام، وقد تكون صورتها المحسوسة صادرة عن شيء آخر تماماً، كجهاز محاكاة ، أو توهم عقلي.
ليس من الضروري أن عقلك هو الذي يتوهم، ربما عقل الكون هو الذي يتوهم، ربما الحياة هي الهلوسة التي تصيب العقل الكوني، أو المنام الذي يعيشه الوعي الأكبر، أصلاً ستتلاشى الحدود الفاصلة بينك وبني الأشياء، إنك منفصل عن الأشياء في البعد الفيزياء، وللتو أدركت أن هذا البعد ناتج عن الصورة..
ومن الممكن أن تعيد فهم الأسباب التي تؤدي إلى تكوينها وحركتها من جديد، فلا تربطها بالفيزياء، لأن الفيزياء نفسها ستصبح مجموعة أحكام مسبقة.. أي أن قوانين الكهرباء والكتل والميكانيك ستبدو "أحكاماً استباقية وجزئية) تبناها الناس بسبب استعجالهم في الوصول إلى نتيجة والقدرة على التكيف مع واقعهم، ففهموا الصورة الجزئية المتاحة لهم بسرعة وأهملوا في طريقهم أغلب الحقيقة، فكانت القوانين الطبيعية شرحاً للأشياء الضرورية وللجزء العملي من الصورة.
الإنسان عموماً يشغله التنافس على البقاء أكثر بكثير مما تشغله رغبة المعرفة والوصول إلى الحقيقة، المجتمع يبحث عن أسباب تجعله يتفوق على بقية المجتمعات، الإنسان يبحث عن أسباب تجعله يصل إلى فرص جيدة أو متميزة للنجاح الفردي، البشر غير قادرين على الصبر الذي تتطلبه عملية البحث عن الحقيقة، وغير قادرين على موازنة حياتهم الدنيوية والروحية، وهذا يجعل المعرفة البشرية بالكامل ... معرفة تمت ((على عجل)).. وتراكمت نتائجها دون فرصة لإعادة التحقيق في مبادئها الأولية.
مفهوم الطاولة والكرسي لا يختلف كثيراً عن هذا الوضع، عليك أن تفهمه فهماً سريعاً، حتى تسابق الزمن وتستطيع توظيفه في منافعك الشخصية، لأنك إذا استغرقت وقتاً طويلاً في التأمل فسوف تخسر زمن حياتك الافتراضي (أو هكذا يبدو الموضوع) ولذلك هناك "مقاومة نفسية" داخلية لأي محاولة للتأمل، بالنسبة لكل البشر، التأمل صعب، المبتدئون لا يعلمون أن صعوبة التأمل تنبع من اعتلال جوهري في الكينونة البشرية والحياة البشرية، ولذلك يستخدمون أساليب خاطئة للتفوق على هذه الصعوبة مثل محاولة التحكم بالتنفس أو التضرع للسماء، هذا مفيد موضعياً، لكن السبب الأساسي هو أن النفس البشرية تخاف على بقائها ولذلك تخاف من أي لحظة لا يتم توظيفها على نحو فاعل في الإنجاز والحياة العملية، أو على الأقل ، في التفكير بالحياة العملية.
واللاشعور غبي لتلك الدرجة التي قد تجعله يقضي سنين ، في محاولة تجنب الاستبطان والاستغراق في التأمل لبعض الوقت ، محارباً التواصل مع الحقيقة وراء الحياة الشخصية بكل شراسة وضراوة، لأنه يعتقد أنه سيموت في تلك اللحظة التي يتم فيها التأمل بيقظة ووعي يخلو من الأفكار ويتواصل مع "الوجود" لا مع الواقع فقط ...