إذا دخل وعي كائن سماوي نطاق العالم المادي (الأرضي) فسيوجه الزمن الموضوعي ليُركّب له الأحداث فيتكون له جسد مادي، طاقة الوعي اللانهائية في ذات الكائن ستعيد تكوين مسار الزمن الفعلي حتى يسمح بتجلي الكائن.
هذا التفاعل الذي يبدو مستحيلاً هو بذاته التفاعل المسؤول عن وجود أي كائن في هذا العالم ، وعن الأحكام المترتبة على كينونته، والزمن الذي ترصده ينشأ بهذه الطريقة، من منطلق التفاعل الحيوي، ويتجلى في صيغة تتوافق مع التفاعل الحيوي، وظاهرياً تبدو هذه الصيغة وكأنها طبيعة وقوانين، لكن في المستوى العميق من الكون والوجود، الأمر نفسه إذا كان الكائن يوجد في لحظة واحدة مكتمل التكوين، أو عبر سلسلة طويلة جداً من الأحداث، تفاعل الكائن وتوجيهه لطاقته هو ما يحدد المسار الزمني لتحقيق رغبته واقعياً.
إذن كلاً من نظرية التطور والخلق صحيحتان، يمكن حدوثهما بنفس المستوى ومن نفس المنطلقات، ومن حيث الزمن الفعلي، يمكن أن يوجّه وعي الكائن الحي الأوّل العوامل الطبيعية دفعة واحدة أو بالتدريج لتجسد مادّته، ويمكن أن يوجد جسده من الطبيعة الموجودة مسبقاً أو من لا شيء، فكمية املمادة في الطبيعة غير ثابتة، لأن المادة هي انعكاس للوجود الكمومي الذي ليس له مقدار محدود.
الفرق بين نظرية التطور وبين نظرية "الانتخاب الطبيعي" المرافقة لها غالباً، هو أن التطور يبحث في "مسار الزمن الفعلي لوجود الأنواع على الأرض" أما الانتخاب الطبيعي فهو أحد الآليات الافتراضية التي تحكم توجيه هذا المسار، ولكنه لا يولّد التطور، إنه يرشده فقط.
الانتخاب الطبيعي كما يوحي اسمه، يعني تصفية العناصر التي لا تتوافق مع نظام الطبيعة، او التي لها فرص أقل في النجاة، وقوانين الانتخاب الطبيعي المبنية على رؤية مادية للكون، تقول أن وجود الأنواع يتناسب مع توافر الموارد الطبيعية لها، فإذا قلت الموارد تنافست الأنواع عليها، وسيكون البقاء للنوع الأصلح في تفاعله مع البيئة ، وبما أن البيئة مادية، لا تعترف بالأخلاق أو بالروح، فالبقاء للنوع الأقوى والأكثر انتهازاً للفرص، والأكثر عنفاً وشدّةواحتيالاً، وهذا معنى الأصلح في العالم المادي.
مع ذلك، الأنواع التي تتنازل عن هذه الصفات العنيفة والقاسية واللاأخلاقية، تتنازل بنفس القدر عن اتصالها بالعالم المادي، أي أنها فعلياً لا تريد البقاء فيه، وربما لم تكن راغبة بذلك من الأصل، وعلى الأرجح أنها تنتمي لمستويات أخرى من الوجود قبل أن تدخل هذا العالم، وربما الكائنات الثدية كانت حيوانات في عوالم لطيفة مسالمة، ولكنها انجذبت لسبب ما إلى هذا المستوى.
بالنظر إلى المعطيات البايولوجية، الأصلح وفق المنطق المادي ليس دائماً هو الذي يسود، أحياناً ينقرض الأصلح مادياً ويبقى الأضعف والأكثر أخلاقية :
التركيز على رغبة البقاء وإهمال بقية الأمور يجعل من المستحيل فهم سعة الوجود اللامتناهية ، لأن العالم يصبح محدداً بحجم الرقعة التي يريد الكائن البقاء في حدودها ويحاول التنافس مع أي شيء يقوم بالدخول إليها.
الكائنات الحية التي تُظهِر في مجتمعاتها تنافسية على البقاء هي نوع من كائنات الغابة ، والسبب في ظهور هذه التنافسية هو وجود المفترسات ، ولكن الواقع لم يكن دائماً خاضعاً لهذا التوزيع ، فلا شيء ينافس النبات عليه حين يقدم الثمار والأوكسيجين للمحيط الحيوي ، أو حين يخرج بطلعة بهيجة مفعمة بطلب الحياة ، مع أنه لا يراها بشكل حسي مباشر ، والتنافس بين النباتات شبه معدوم ويقتصر على حالات نادرة مثل التطفل أو الخروج في مكان ضيق لا يسمح بتواجد نباتين، لأن النبات بكل بساطة لا يهتم كثيراً بالفرص ، ولكنه ينتج الفرص.
والبحر يوضح ذلك بشكل أعمق ، إذ أن عدد الأنواع البحرية أكبر بكثير من أن يتم حصره أو حتى اكتشافه ، ولو كان التكاثر سيقوم بمحو الأنواع الغير صالحة مادياً فماذا تفعل الأسماك الصغيرة في البحر إذن ؟
الملاحظ حسب علم الأحافير أن البقاء على المدى الطويل لا يكون للأصلح ، والانقراضات الكُبرى تحدث لأسباب غير مفهومة وتؤدي لنتائج غير مادية ، ويبدو أن الأصبر والأكثر عطاء وتماسكاً له النصيب الحقيقي في البقاء، ففي العصر الطباشيري حدث انقراض لأكثر الكائنات قوة وتطوراً ، مثل "التيروصور" والذي يمكن اعتباره مقاتلة جوية بيولوجية وليس حيواناً ، أو مثل الديناصورات العاشبة العملاقة والتي يبدو وكأنها سفن فضائية حطت على الأرض ، أو الديناصورات اللاحمة ، والغريب أن الكائنات التي نجت من ذلك هي الثدييات ، الأصغر والأضعف ، والتي لم تكن متفوقة بأي شيء وربما كانت الديناصورات تراها كما نرى اليوم ألعاب الشطرنج.
في نهاية العصر الرباعي انقرضت أيضاً الثدييات المتفوقة في الحجم والقوة والتقنية ، سواء منها العاشبة مثل الماموث أو المفترسة مثل النمو الدبي ، وبقيت الثدييات التي نعرفها اليوم مع أنها أبعد بكثير عن أن تكون الأصلح.
فكرة البقاء للأصلح مادياً التي أدركها دارون في علم الاقتصاد وحاول فهم الحياة كلياً من خلالها، كان محقاً بذلك بخصوص مجتمع مادي النزعة، يؤمن أفراده بالمنطق النفعي الذي يقول أن الأسباب المادية هي الحكم النهائي للنجاح والفشل ، وأن العلل الحقيقية لتوزيع الأرزاق هي اغتنام الفرص.
والمشكلة في هذا النوع من المجتمعات ليس الطبيعة ، إنما هي تكوين عقليته الصارمة التي ينعكس منها عالَم قاسي يمنع الأفراد من التنفس لأنهم يتنافسون طول الوقت، بقاءهم معتمد على وجود الضحايا الأضعف منهم. وكلما زاد عدد الأفراد المصدقين بذلك والتابعين له كلما ازداد الضغط الكينيائي على بقية أفراد المجتمع الذين يؤمنون بالقيم.
إذا اردنا شرح الموضوع على نحو دقيق ومكتمل، نقول إن البقاء في مستوى وجودي محدد وضمن نظام حياتي محدد، يكون للأصلح في التوافق مع هذا المستوى، بنوعية التفاعل الذي يستخدمه الكائن أثناء الاتصال.
إذا كان الكائنات موجودة في مستوى معين له قواعده، وتتفاعل معه من نفس منطلقاته (نفس مستوى الاسباب فيه) فسيكون البقاء حينها للأصلح حسب منطق تلك الأسباب.
إذا كانت هذه الكائنات توجد في مستوى آخر له قواعد مختلفة ، أو كان بعضها يتفاعل مع المستوى الوجودي نفسه ولكن من منطلقات أخرى ورؤية أخرى ، ومبادئ مختلفة أو إدراك مختلف، فسيكون الحفظ على البقاء مختلفاً كلياً.
أي أنك حين تؤمن بمنطق السببية المادية وتتفاعل من خلاله، فلا تتوقع شيئاً أكثر مما توفه الأسباب المادية، لكن إذا كنت تتفاعل مع الواقع المادي من مستوى أعمق، وتستخدم قوة أعلى، أو اصتالاً بمستوى أعلى، فمن الطبيعي أن لا يحكمك العالم المادي حتى ولو كنت تقيم فيه، ويمكنك أن تغير أشياء لا يمكن للآخرين التأثير عليها، وهذا هو سبب وجود القوى الخارقة لدى البعض، بينما الآخرون لا يستطيعون الوصول إلى نفس هذه القوى.
فعندما تكون منوماً مغناطيسياً محترفاً تماماً فإنك لا تحتاج إلى استخدام عضلاتك في التحكم بشخص آخر، يكفي التأثير على عقله مباشرة.
كذلك بالنسبة للبقاء، ليس بالضرورة أن يكون "الأصلح" متوافقاً مع معايير المستوى قد يكون متجاوزاً له بالعديد من المستويات.