بنيوية الصليب الذي يقيدك
(1) النظارة الواقعية المربعة
الواقعية المتطرفة ، تلك الحالة التي يرتدي فيها عقلك وعيناك نظارة الواقع المادي ( نظارة العميل سميث "الحدّاد" الذي يحدد الإدراك وقوى الروح ) فما تعود قادراً على التمييز بين الظاهر والحقيقة، فلا يكون لديك إلا مجالان للعيش : إما التخلي عن الحقيقة والاكتفاء المطلق بالظاهر ، وإما إكمال الظاهر ببناء ذهني خالص.
عالمك المادي مكون من معطيات ( موضوعات إدراكية ) طبيعية كالشمس والقمر والنجوم والجبال والدواب والناس ، وكل موضوع معطى مكون من عناصر جزئية ، فالجبل له قمة وجذر وجذع وحواف ، وكل قسم يمكن تحليله كذلك حتى يتحول إلى محض توزيع هندسي لمجموعة من الحجارة والرمال، أو هكذا الأمر يبدو.
إذا تعاملت مع العالم المادي حسب ظاهره ، وأنت ذات حية ، وقلت لنفسك ليس هناك في الوجود إلا هذا الظاهر فقط ، فما الذي ستفعله حينها أو ما الذي سترغب به وتعيش لأجله ؟ بالنسبة للعميل سميث فإن ما يرغب به يسميه ب"اللذة" وما لا يرغب به يسميه ب"الألم" ، وكل تصرفاته مبنية على كسب اللذائذ وتجنب الآلام، وكل ما سيفعله العميل سميث سيبدأ من هذه النقطة.
إذا كنت ترغب في البقاء ضمن العالم، وكان هذا العالم مادياً برؤيتك ، وأنت لا تعترف بأي شيء فيه إلا الجزئيات الموضوعية المتراكمة والأحداث الزمنية المتعاقبة الظاهرة أمامك حسياً وعلى نحو فج ، وكانك أقفلت على بصرك مجال رؤية أمور أخرى غيرها ، فغن رغبة البقاء في هذا العالم لن تثمر ، ستحس بأنه عالم ممل جداً وفاقد للمعنى ، ولكي تعيد إحياء المعنى سيكون عليك التخلي عن القفل الذي وضعته مسبقاً.
من لا يريد التخلي عن القُفل الواقعي ( النظارة ) سيكون عليه التكيف مع حالة الضجر الوجودي، وهذا مستحيل لأنك ترفض الإحساس بالذاتية ، فكل تركيزك على العالم الخارجي ، ذلك يجعل الدماغ ينزع تلقائياً إلى التفاعل مع الموضوعات الخارجية بهدف قتل الوقت أولاً وأخيراً ن والشعور المترتب على توهم قتل الوقت ، هو ما تحسه عند تحقيق (إنجاز) أو (انتهاء مهمة) معينة.
للتوضيح : العالم فارغ من ما يثير الوعي ، الوعي يحس بعبئ الزمن ، هنا يتدخل الدماغ لـ(يُنسي) هذا الوعي ذلك الضجر المترتب على فضاوة العالم المادي من المعنى ، وطريقة إنسائه لهذا الضجر هي حث الوعي للتفاعل مع موضوع معين من خلال إشارات كهربائية توجه الإدراك عبر عصبونات الدماغ نحو ذلك الموضوع ، هذه الإشارات تنفرز بالدرجة الأولى نتيجة هرمون الدوبامين.
يفرز الدماغ هرمون الدوبامين ليخلص الوعي من الصراع مع بقائه في عالم ممل أو زمن مضجر ، الدوبامين يوجد حالة من (التوتر) أو الهياج الخفيف او الألم والتي لا تزول حتى يتم تحقيق المهمة والتفاعل مع الموضوع الذي ربطه تأويل العقل بالتوتر.
الهدف من التوتر هو إعادة توجيه الوعي نحو التفاعل بعد فتوره ، نتيجة لذلك يتقبل الوعي قاعدة مفادها أن استمرار الحياة البقائية يعني استمرار إفراز الدوبامين واستمرار حالة الاستحثاث بالتوتر والنشوة بالتحرر من التوتر ، وهذا يعني ان التوتر سيزيد كلما قلل الوعي تفاعله مع العالم المادي وهذه استراتيجية يعتنقها العقل الباطن في سبيل منع الوعي من إدراك وهمية عالمه أو عدمية وجوده.
حسناً ، الوعي هنا ينشغل طوال الوقت بمهمات وأعمال تساعده على استمرار حالة "النسيان" فيولد من تفاعل الوعي والعالم المادي ما يسمى بالإنسان.
بمجرد أن يدرك الوعي وهمية عالمه الذي خلقه له توتره واستجابته لهذا التوتر ، يبدأ الشعور بالجحيم ( بعد ملئ الباطن من شجرة الزقوم ) ... هكذا تولد جميع الرغبات المتعلقة بالعالم المادي ، والتعزيزات والمكافآت الخاصة به ، وكل ما يعتقد الإنسان وهماً أن له قيمة في عالمه المنظور ظاهرياً يبدأ بالضبط من هذه النقطة.
إذن لدينا أولاً الصليب الذي يأسر الذات الواعية في شرط معين يرغمها على البقاء في حالة زمنية معينة.
ثانياً هذه الذات التي اتخذت لنفسها وجوداً موضوعياً ( الوزير ) تبدأ بالضجر فتشتعل للتفاعل مع البيئة عبر خلق حالة من التوتر تكون إزالتها هي التحفيز للبقاء والبناء.
ثالثاً ، هذا التفاعل الناري المحرق لدموع الملك ودمه بعد أن تم صلبه في الواقع الموضوعي ، سيجعله أسيراً في حلقة لانهائية من التكرارات الزمنية ، ولكنه مهما حقق من إنجازات ، لا يتفوق نوعياً على رقعته ، لا يكسر صليبه ، جميع إنجازاته كما تفاعلاته تقع ضمن نفس الرقعة ونفس الإمكانيات ، بل ولا يوجد اي تطور روحي بعد كل هذه الاحقاب ، لأنه قادر مسبقاً على فعل كل شيء موجود ، فقط هو يلهي نفسه بذلك.
فعلياً لا يزال الملك غير قادر على التوقف عن اللعب واليقظة إلى الحقيقة وهذه هي المهمة الوحيدة ذات المعنى له في هذه اللعبة، إنه يبتعد عن اهم شيء معقداً على نفسه الأمور بنحو لا يصدق، لإنها الحقيقة لمؤلمة جداً بالنسبة لإنسان صنع عالماً من الجنون والفصام وهو يحسب أنه يصنع حسناً وفجأة تضيء له شعلة الحق فيجد ما فعله هو السبحان في سراب.
إنه يفضل البقاء أجيالاً وأحقاباً ضمن هذا الاحتراق الزمني للمصير على أن يدرك الحقيقة المرة في لحظة واحدة وهي أنه يعيش في عالم وهمي ، حتى ولو كان هذا العالم موجوداً خارج ذهنه ، ولكن دوره هو الوهمي فيه ، ما يعتقد أنه يجعل لوجوده معنىً ليس له وجود ، إنه مجرد شرط ...
عالمك قد يكون حقيقياً تماماً وحتى أدق تفاصيله ، ولكن ما الفائدة من ذلك إذا كان وجودك وعدمك فيه سواء ؟ وكان كل ما يحدث من تاثيرك الممارس عليه مجرد أن العالم يجاملك والذهن يخدعك بتفهيمك ان وجودك في عالم مادي سيكون ذو معنى مستقل عن ذاتيتك.
هذا فقط لتدرك لماذا العميل سميث ( الحدّاد 9 يتصرف على نحو أوتوماتيكي ن لأنه ببساطة يستحيل أن يتصرف بشكل آخر ن لقد خسر وجوده الذاتي من جل وجوده الموضوعي وصار الوجود المادي كامل المعنى والحياة بالنسبة له، لا يمكنه تصور حياة أخرى، لا يمكنه زحزحة إدراكه عن نموذجه عن العالم ، لأنه بمجرد أن يفعل ذلك سيقوم الدوبامين بإعادته عنوة عنه {(
كُلَّمَا أَرَادُوا أَن
يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )}
هذا أمر غريب جداً ... كيف يمكن ان تصف الآية شيئاً مثل هذا ...
طريقة قتل الوقت في عالم مادي ظاهري محض هي التفاعل مع البيئة بحثاً عن أحاسيس جديدة لتختبرها ، وسيدخل الذهن من هذا الباب ليكمل لك العالم ضمن ذكريات وتأويلات تضفي نكهة وهمية للاختبارات التي تقوم بها ، مثال على ذلك سيكون الجنس مجرد احتكاك مادي ، ولن يكون له أي معنىً إذا اكتفيت بالظاهر وحده ، ولكي تتحصل على متعة جنسية فيجب أن يكمل الذهن الواقع ببناء شيء موازٍ له ، فتختبر العالم الواقعي بجسدك وذهنك يختبر الفجوات التي يخلقها هذا العالم.
إذن رغبة البقاء ستكون محرك رغبة التفاعل مع البيئة المادية ، رغبة التفاعل مع البيئة المادية ستنشطر إلى
نتجت عن اشتعال رغبتك كذات حية بالواقع الموضوعي (المادي تحديداً) أمامك وانشغال الوعي به.
العملاء الذين يريدون أن تستمر الماتريكس هم الذين يرتدون هذه النظارة ويروجون لها، ويحاولون إثارة الناس نحوها بطريقة أو بأخرى ... خصائص هذه النظارة هي أنها تريك العالم المادي بهيئته الظاهرية المعزولة عن جميع المجالات التي تخرج من إطاره ، فترى العالم المادي هو "مجموعة المواد" أو مجموعات ذرية، فأنت نفسك ستكون وفق هذا التصور مجموعة ذرات تقترن حالياً فتولد ظاهرة هي "أنت".
لشرح لك بعض الأمور عن نظارة سميث ...
في نظارة سميث وهي الحالة التي تكون عليها أثناء الإثارة والاستحثاث العصبي ، أول الأعراض هي عدم القدرة على التوقف عن الانشغال بالعالم الخارجي ، ثاني الأعراض هي وجود توتر داخلي لا يمكنك مقاومته نتيجة وجود هدف خارجي تتوقع حدوثه.
تركيزك دائماً منصب على هدفك ولا تترك لنفسك فرصة للاسترخاء العميق وإدراك الحياة دون احكام مسبقة ن هذه الأحكام تشكل بالنسبة لك شرط البقاء ، فهي أهم من وجودك في العقل الباطن.
في نظارة سميث ستجد أنك غير قادر على التحرر من الغرائز البدائية ، مثل غريزة الطعام والشراب ، بحيث انك ، إذا كنت جائعاً ، وكنت قادراً على أن تأكل ولم تأكل ستحس بالتوتر مباشرة، والذي سيبقى يحثك على الطعام ، أي ليس لديك خيار أن لا تأكل دون أن تقدم أعذارك لعدم فعلك الأكل ، يجب أن يكون هناك تبرير لل شيء حتى يقتنع العقل أن يصفح عنك ، كذلك الجنس ن لا يمكنك أن تقول : لن أمارس الجنس وكفى ، غذا كان لديك الرغبة وكانت الظروف مهيئة ولم يكن هناك دافع أقوى يمنعك من الممارسة فسيقوم الدوبامين بتوتيرك وتحفيزك والقضاء على هدوئك حتى تستجيب وتمارس الجنس ، اي أن حريتك الحقيقية غائبة ، لا يهم كم لديك من النقود أو الأملاك ، كلها في النهاية مسخرة لخدمة اللاشعور والصليب في داخلك.
في نظارة سميث سترى أن الكلمات الروحية والكلية والفنية يصعب فهمها ، لأن فهم سميث مبني على الروابط المنطقية بين الأشياء الموضوعية ، وكلمة الروح لا تحمل معنىً ذا دلالة موضوعية ، بالنسبة لسميث لن تكون مثيرة ، كما أنه لن يفهمها أصلاً.
الأمر لا يقتصر على ذلك ، اعذب الاشعار بالنسبة لنظارة الواقعية تبدو وكانها هراء أطفال ، وأجمل الموسيقى تبدو مملة ، بينما الموسيقى الصاخبة والتحفيزية تبدو في منتهى اللذة.
في نظارة سميث لا يوجد "أنت" حقيقي، بعبارة أكثر دقة : لا يوجد (ذاتية) للأشياء التي يفوق تركيبها ذرة مادية واحدة ، فالشيء المركب من عدة ذرات هو مجرد ترابط بين هذه الذرات ، ليس فيه طبيعة داخلية تفصل وجوده عن البيئة المحيطة، وليس فيه (جوهر مركزي) يختلف بطبيعته عن ترابط الذرات ببعضها.
إذن الوعي غير موجود في نظارة سميث ، هناك علاقات معينة بين الذرات عند حدوثها تنشئ حدثاً ( إحساساً ) غريباً يسمى "الوعي".
كما يصور روجرز بنروز الموضوع في كتابه العقل والحاسوب ، أن النظرية الذرية الوجودية تفترض أن تجميع الذرات بنفس ترتيبها في جسدك ، ولكن في مكان آخر يعني أن وجودك نفسه انتقل إلى ذلك المكان ، فلا فرق بينك وبين الشيء الذي تم تجميعه هناك إلا عامل العلاقات البيئية ، وكما يصور الموضوع بطريقة أجرأ بريتنارد راسل : أنه لا وجود لل"أنا أكون" فأنت الآن مجموعة ذرات ، وحتى تأتي اللحظة التالي يجب أن يختلف ترتيب هذا المجموع او تختلف علاقاته بالبيئة ، وبالتالي فكلمة "أنت" أو "أنا" لا تعبر إلا عن حالة واحدة ضمن زمن محدد من تجمع الذرات بطريقة محددة.
تجمع الذريرات المادية يحدث بعامل الصدفة التراكمية عبر الأجيال والعصور لتشكل روابطها أنماطاً جديدة من التعبير المادي ، مثل جسدك الظاهري ...
عملاء الماتريكس من فئة سميث هم الأكثر قدرة على فعل الأشياء القبيحة والمؤذية ، لأنهم تجردوا من ذواتهم على نحو شبه نهائي ، فصاروا مجرد رغبة دفع حيوي نحو التفاعل مع البيئة ، أو بالأحرى مجرد رغبة بقاء وتطور.
التفوق الذي يسعى إليه سميث هو التكيف الاعلى مع البيئة بحيث يضمن البقاء ومتعة الإنجاز وإشباع الدوبامين بنفس الوقت ن عندما تحس بأنك ترغب بتطوير ( قوتك ) أو زيادة ( نجاحك ) ، بغض النظر عن هل ذلك يحصل بالطرق التقليدية أو السحرية ، هذه رغبة الوحش ، الجائع الذي يريد ان يلتهم ، آيتها أنك لا تستطيع عدم الاستجابة فاستجابتك لها ليست نابعة من غاية أخلاقية.
هذا ينطبق على كافة الرغبات البقائية مثل تجريب كل شيء ، وما يسمى زوراً ب"عيش اللحظة" ومزمز ميراندا ، وكذلك ما يبرمجون الناس عليه في الالعاب المبنية على نظام المكافآت والتعزيز الذهني ... أقصد هذه التي انتشرت في الفترة الأخيرة.
فتذكر دائماً يا بن السماء والأرض أن المعنى القيّم وحده هو ما يمكن أن يخلصك من جحيم العالم سواء داخلاً بالخلاص من وحشك أو خارجاً بالخلاص من العالم نفسه، وأنه لا قيمة للإنجاز بحد ذاته وتقانته ، ولكن له قيمة بقدر ما هو متصل بالضمير وتندى له الروح ...