يقظة للحقيقة : ما هو الإلحاد بالمعنى الدقيق ... وما هي أنواعه

المزيد من مواضيع سيد الأحجار السبعة

سيد الأحجار السبعة

عابر الزمن الثالث
المشاركات
792
مستوى التفاعل
1,551
الموقع الالكتروني
alkynilogy.blogspot.com
فكرة الإلحاد بغض النظر عن تنميطها ولغتها، تعتمد أساساً معرفياً واحداً :

أن ظاهر الكون بما هو موضوع محلي مُباشر يحضُر للحواس الجسدية [ أي دون معرفة الجوهر - ودون معرفة الحقيقة المُطلقة ] هو الشيء الوحيد القابل للمعرفة بالنسبة للناس، لأنه هو كل شيء وليس وراءه أي وجود من أي نوع آخر.

الظاهر المحسوس هو ما يُقصَد منه مجموعة العناصر المادية التي تشكل معاً نسيج الكون المُفارق للذات ذاتياً، فهو ليس شيئاً له ذاتية أو كينونة داخلية مستقلّة ، أي أن الظاهر هو "الشيء المُدرَك حسياً" والباطن هو "الشيء في ذاته"، والإلحاد يقول إنه لا مجال للتعرف على الشيء في ذاته، أي خارج الرصد الحسي المادي ، لأن ذات الشيء إذا كان حقيقة فهو مختلف عن ظاهره، وليس شكلياً أو ببعض الصفات، إنه مختلف جوهرياً.

ذاتك تُدرِك الكون المحسوس كمُعطى خارجي مفارق لها، تدرِكه كشيء غيرها، شيء هُناك ، وهذا الفاصل بينهما هو ما يجعل الكون الظاهري محل التشكيك والنقد المُستمر ويجعله خالياً من الحقيقة بالمعنى الدقيق، لأن الذات الواعية لا تتصل بوعيها وشعورها بذات الموضوع الذي ترصده، ولكن تعتمد على صورته ومادته لعرفته، وكلاهما هو تفاعله الكوني مع الرصد، الذي يتغير مع الزمن ويتحدد بوعاء المكان. إن الظاهر الذي لا يُدرَك له باطن، يغيب ذاتياً عن الذات التي تُدرِكه، ويقترب إلى أن يكون نوعاً من الوهم الجبري على الحواس، أو النمطي والمنسّق بنظام.

الإلحاد هو أن تُنكر الذاتية في الأشياء وتكتفي بأثرها المرصود ظاهرياً والذي يشكل ما نسميه ب"العالم الفيزيائي"، هذا هو الأساس في إنكار الغيبيات، الإلحاد لا يحاول أن يقول لك إنك لا ترصُد ذات الشيء وغيبه، بل يريد القول لك "ليس هناك ذاتيات أصلاً" وليس هُناك إلا ما ترصُده عينك وأذنك الفيزيائية.

بمعنىً من المعاني يقضي الإلحاد أن تتعامل مع العالم الفيزيائي دون تحقيق إدراكي في مسألة ذاتية الشيء مقابل موضوعيته، لأن موقف فصلك لذاتية الموضوع الباطنية عن ظاهره المرصود موضوعياً يعني أيضاً اعترافك بوجود ذاتية لا ترصدها ولا يمكن أن تكون موضوعاً للرصد الموضوعي أيضاً، ذاتية الموضوع يمكن إدراكها أو التواصل معها دون حواجز الزمكان، ولذلك هي ليست بالشيء الذي يمكن أن يُطلَق عليه ظاهر أو نسبي أو مادي أو محدود، والإلحاد هو أن تتخذ موقف عدم الاعتراف بمثل ذلك الوجود.

يجب أن تعلَم أن الظاهر أو الوجود الواقع أرصادياً Factual Existence يكون محدداً بحسب طبيعة الأدوات التي رصدتَه بها، فإذا كانت الأدوات مادية سيكون الظاهر مادة، إذا كانت الأدوات عقلية سيكون الظاهر تجريداً، إذا كانت صلتك بالواقع روحية أو حدسية فسيكون نوعاً من الوحي أو التجلي أو الإلهام.

لذلك الظاهر المادي هو جزء من الظاهر المُطلَق، وهو حالة طبيعية في عالم مُحدد مسبقاً ليكون هكذا ، ورصدُك للظاهر المادي لا يعني أن الشيء الوحيد القابل للظهور هو شيء مادي، ولكن أن حواسك لا يمكن أن يظهر لها شيء يتجاوز قدرتها على الأرصاد، وهو أمر أصبح معروفاً إلى حد ما، فحتى في حالة المعرفة المادية هناك حدود على الحواس فالعين البشرية أقل جودة في الرصد المادي من عيون الجوارح بكثير، وآذان البوم ليست كآذان البشر، والخفافيش تملك فعلياً حساسات راديوية تنقل لها ضرباً من الأحاسيس التي لا نعرف نكهتها بعد، فلما لا تكون الحواس المادية نفسها محدودة نوعياً لا كمياً فقط.

هذا يجعلنا نُفرق بين الوجود الواقع والوجود المحلي Local Existence لأن الأخير يعني حصراً الظاهر للحواس الجسدية التي تتصل بالأشياء محلياً عبر مسافات وفترات.

الآن أنت ترصد غُرفتك، بيتك و المدينة والأفق السماوي من محلّك الخاص فيزيائياً أي من الإحداثيات كذا وكذا على خطوط طول وعرض الأرض، والإحداثيات كذا وكذا في ميقات رصدك، هذه معرفة بالمعطيات Data ، وهي معرفة حسية صريحة ومباشرة بموضوعات حسية ولذلك تسمى ب"الانطباعات" Impressions وهي التي تُدركها مباشرة ودون تفكير، حسك بحرارة النار لا يحتاج إلى تفكير.

هذه الانطباعات لا تخبرك بأحكام منطقية محددة عن العالم من سنخ الإثبات والنفي، يبدأ البناء المنطقي للعالم في اللحظة التي تترك فيها الإحساس المباشر بالانطباع وتحيله إلى "صورة Concept" ، ومع مرور الوقت تتكاثر الصور وتتكاثر معها العلاقات المنطقية لتصل في النهاية حداً يشكل رؤيتك عن العالَم بأسره.

الإلحاد :

هو "الصورة الذهنية عن العالَم المحسوس ظاهرياً، التي تصوّره على أنه عالمُ مغلق بما هو شيء ظاهر"، خالي من الذاتية والمعنى والجوهر والمُطلَق. وهذا الاشتراط المنطقي على العالم ليس من قبيل الأحكام القابلة للبحث، لأنه يرفُض أساساً أي بوابة للمعرفة لا تنتمي للحواس الجسدية ولا تخبر بالموضوعات المحلية.

بمعنىً أدق ... الإلحاد ينغلِق على نفسه ... ويتخذ العقيدة والمصادرة كمبدأ لا كنتيجة، شأنه بذلك شأن المذهب المادي في المعرفة والوجود والذي يشكل جناحي الإلحاد في القضايا العلمية والفلسفية، ولذلك يصف الفلاسفة الإلحاد بأنه "النزعة الطبيعية الساذجة" ويصفه هوسِرل بأنه "السذاجة الأبدية" ... هذه ليست محاولة للشتم ولكنها صفة دقيقة تقنياً.


هكذا نعلمُ أن الإلحاد بالمعنى الصحيح للكلمة، ليس هو إنكار الخالق، لأن المُلحد قد يقبل بوجود خالق للكون إذا كان هذا الخالق بشرياً صمم محاكاة مثلاً، أو كان مكوّناً من المادة، فالمسألة عند المُلحد هو أن الخالِق يجب أن يكون موضوعياً [هُناك] وبالتالي ليس له ذاتية، وهذا يجعله أشبه بالعقل الإلكتروني، لا يهم في الإلحاد هل هناك خالِق أم لا، ولا هل هناك كائن فائق أم لا، ولكن ما يهم هل طبيعة وجود هذا الكائن الفائق أو الخالق هي طبيعة ظاهرية مادية محلية، أو له "وجود حق".

ماذا يعني ذلك ... أن العالم الذي نراه لا وجود له !

لا ... ولكن أن العالم المادي الذي تراه عادة ، يكون شكلاً من أشكال التعبيرات عن الحقيقة المُطلقة، ولكنه ذلك التعبير الذي يحجبها ويبقي على الشكل نفسه، لأن هذا العالم لا ينشأ إلا إذا صرف الإدراك بصيرته عن كل شيء سوى الالتفات نحو التعبير الظاهري المحلي المفارق للذاتية.

ذلك يعود إلى القيد المحلي على الإحساس الجسدي بظاهر العالم الحقيقي.

في الفلسفة يسمى الإلحاد بالنزعة الطبيعية الساذجة، لأنه يُغرِق في الالتصاق بالأثر ويترُك العلل الجوهرية التي أدت به إلى الوجود

وكل ما يُبنى عليه من معرفة يأتي من إعمال الذهن فيه، والروح تكون نوعاً من أنواع العمل الذهني الممارس على المعطيات الحسية، فليس هناك روحٌ بالمعنى الجوهري ، فيكون اللاهوت حينها جزءً من هذا الظاهر الذي لا باطن له، أي هو جزء من النظام، أي من حالة الظهور نفسها، وتصوير الإنسان كمادة، وتصوير قيمته بأسرها في مادته ...

إذن ، فكرة الإلحاد ليست في الحكم على تصور وجود الخالق أو عدم وجوده، أو عن تصورات الكون، ولكن ... هي في نوع الرغبة وطريقة الإدراك والحياة المبنية عليها، ولذلك فإن حركات الروحانية الحديثة التي تروج اليوم في عالم العرب ، تتخذ نفس الأبعاد الإلحادية للقرن الثامن عشر.
 
التعديل الأخير:
المعنى الحقيقي للتوحيد

الوجود الحق واحدي لأي موضوع، ولا يتركّب من أشياء أو مستويات، والظاهر بطبيعته تركيبي دائماً.

واحدية الوجود الحق ذاتية ومُطلقة، ولا يمكن فهمها من ضمن نظام الكثرة الكونية.

المفاهيم القَبلية "المقولات كالكم والكيف" التي تقولب رؤيتك عن العالم، جاءت متأخرة عن الواحد الحق.

مفهوم الوحدة في الكون الظاهري مختلف عن مفهوم الوحدة فيما وراءه أو في الحقيقة الذاتية، لأن الواحد في الكون هو واحد نسبي، أي هو كذلك بالنسبة إلى أشياء متعددة ينتمي أو لا ينتمي إلى مجموعتها، فحين نقول : تفاحة واحدة في هذا الصندوق أي : ننفي وجود أية تفاحات أخرى فهي واحدة بالنسبة لحالة كثرة التفاحات الممكنة الحدوث، هذه وحدة عددية.

ثمة نوع آخر من الوحدة في عالمنا وهو وحدة "المجموعة\الفئة" مقابل عناصرها فنقول "الكون كُله" أو "العالم كله" أو "البشرية كلها" ونعني مجموعة العناصر الظاهرية التي تنتمي إلى فئة ما.

الإلحاد يرى وحدة الوجود من هذه الناحية، أي وحدة وجود فئوية أقرب لكونها تركيباً من العناصر اللانهائية، لأنه ينكر المطلق عن الصفات الكونية ومقولات الكم والكيف، وينكر أي نوع من اختراق هذا الواقع سواء على المستوى العقلي أو حتى المادي، فكل شيء مقيد بقوانين المقولات وبقوانين المادة أيضاً.

لذلك كلمة "اللانهائي" لوصف الله، هي كلمة إلحادية إذا حللتها بالمعنى الدقيق، ولا يهمك من سيقولها.

لأن اللانهايات هي الظاهر الذي لا ذات له توحده، ويوحده مجرد شبح المجموعة بأسرها فحين تقول "الجيش" فإنك لا تقصد واحداً ولكن تقصد مجموعة، ويكون الواحد الذي اسمه الجيش مجرد وهم إدراكي يستخدم للإشارة إلى مجموعة لا تربطها وحدة داخلية.

الكثرة اللانهائية للعالم المادي تنشأ عن حالة غياب ذات الأشياء، وحقيقتها، وتقييد المعطيات في الفواصل والمسافات الزمنية التي تحتاج إلى نسب الأشياء لبعضها البعض، ونتيجة ذلك يبدو الوجود مُركباً من لانهايات من العناصر التي تربط بينها علاقات خارجية.

في المستوى الذاتي لا معنى أصلاً للوحدة مقابل الكثرة [ التي نستخدمها في عالمنا ] سواء الوحدة بالمعنى العددي أو بالمعنى الفِئوي، كلاهما لا يصف الذات الحق للعالم، لأنهما ينتجان عن الإدراك المُقيد بالظاهر المادي (المحلي)، والوحدة الذاتية لا تنتمي لعالم ظاهري أو موجود محلياً، وبالتالي لا تنطبق عليها مقولات هذا العالم وقيوده.

يمكن الإحساس بالوحدة الذاتية أو إدراكها بحواس تنتمي للعالم الحقيقي أو للبعد الذاتي للكينونة، ولا يمكن فهم عالمها بالبصر الجسدي والعقلي وحده، لأن الوجود الذاتي غير مركب من كائنات بينها علاقات وفواصل، فإدراكك للفواصل والعلاقات وماهيات الكائنات وتشخصاتها ، كلها تأتي من تركيزك على الظاهر مع لاإدراك الوجود الذاتي، بمعنى أنها أشبه بالأوهام والأشباح التي تمنع إدراك الحقيقة.

وتنشأ المعرفة التي لديك عن العالم المركب بسبب ترك البحث عن الحق الذي يظهر ويتجلى من خلال الأشياء، وعوضاً عن البحث عن الحقيقة، يركز إدراكك الإنساني انتباهه الكامل على تلك الكائنات في ظاهرها ، دون ردها إلى مستويات أعمق من الإدراك، ويبني تصوره للعالم هكذا.

ولكن الحق غير مقيّد بظاهر الكائنات ولا يحتاج إلى هذا الظاهر حتى يكون واقعاً للإدراك.

الظاهر من دون الباطن أقرب لأن يصنف كحجاب على الحق، وليس تجلياً له بالمعنى الصحيح، ونقول علمياً : هو نوع من الوهم الإدراكي للعالم ينشأ من توجيه الإدراك المباشر للشخص نحو العالم الظاهري وتركه لإدراك العالم الحقيقي، وهنا تنشأ المعرفة الظاهرية ومقولاتها، وهذه هي حالة "النسيان" للحقيقة والانشغال بالظهور.

الإدراك المادي ينشأ عن تقييد رؤية التجلي وليس عن تجلي الله للناس ...

يظهر التجلي الإلهي بحسب تفاعل كينونة المُدرِك معه، فإذا كانت هذه الكينونة مادية ومحلية سيكون تفاعل الإدراك مقيداً بها بالتأكيد، وبالتالي سيبدو الكون المتجلي مادياً ومحلياً، وإذا تحرر الإدراك من قيود المادة على كينونته الزمنية فلن تكون المادة بهذا الشكل الذي يراه حالياً.

وسيتلاشى العالم المادي ويقترب أكثر للوحدة.

حالة التركيب هي نتيجة الكثرة الوهمية، والكثرة نتيجة لافتراق الموضوعات الحسية عن الحقيقة التي توحدها، وهذا الافتراق يكون بالنسبة للذات التي تدرك الوجود وليس بالضرورة أن تكون كل الذوات كذلك.

فصل الظاهر عن الحقيقة، هو ما يجعل العالَم في حالة التركيب التي تراه عليها، أما حقيقة الوجود المُطلقة فهي التوحيد الحر من قيد التركيب، وهذا لا يعني أن الحق غير ممكن التجلي إلا في حالات مركبة، بل أن التجلي المُطلق للناس، غير ممكن بسبب مساوئ صفاتهم، وبسبب ناسوتيتهم ونسيانهم، هذا مختلف عن أن تقول إن الإنسان بنقصه ضرورة بالنسبة لتجلي الوجود ولا يمكنه التفوق على نقصه أبداً، أو أن الله لم يكن لديه خيار آخر ...
 
المصدر للضباب الذي يضيّع الحقيقة في الكلمات هو الترحال من الألفاظ إلى المعاني …

الحق أن يكون المعنى سابقاً على اللفظ في إدراكه، لأن اللفظ رمز للمعنى، فإذا غاب المعنى وبقي اللفظ فلن يشير إلى شيء، وكذلك إذا غاب المعنى عن إدراك الآخر الذي تتوجه نحوه بالخطاب فإنه لن يفهم ماذا تقول.

ولذلك يكون الحق أن يكون المعنى مُدرَكاً بوضوح حتى يتسنى الإشارة إليه باللفظ للآخرين فيعرفونه.

الناس يبدؤون دائماً بالبحث ضمن الألفاظ ولذلك يلجؤون بتعريفهم له إلى استخدام تاريخ دلالة الكلمة لمعرفة معناها ، ثم يقررون موقفهم عنه.

main-qimg-f0812349aa72d89c0d6d57bda4671cac

هذا سيحصرهم بالطبع فيما نُقل إليهم من إدراك الآخرين ، ولن يقدروا على فهم وإدراك معاني تتجاوز هذا النَّقل. حين لا يعرف الشخص معنى الكلمة (الحقيقي) قبل أن يستخدمها ويحكم عليها ، فكل ما سيقوم به بناءُ الأحكام المزيفة أو الافتراضية بأحسن الأحوال.

كلمة الدين قد تعني بالنسبة لك معنًى مختلفاً عن الذي تعنيه بالنسبة للذي تتوجه بحديثك إليه، ولكن على ماذا سيكون مدار الحوار بينك وبين جليسك عن الدين ؟ هل ستتحاوران عن الدين برؤيتك أم الدين كما يراه ؟ ما هو معنى الدين أصلاً ؟

عندما نقول هذا ينتمي للأديان وهذا لا ديني فما الفرق الجوهري بينهما ؟ وهل هذا التعريف يمكن له أن يقارب تعريف القرآن الكريم للدين ؟

وأخيراً ، كيف عرف كل واحد منكما ماهية الدين حتى تتكلما عنه ؟

لاحظتُ بقراءتي لما يسطره الناس عادة ، أن الدين بالنسبة لهم إما أن يأخذ تعريف الماديين للدين ، كمجموعة عقائد وظيفية في المجتمع تتحدث عن قضايا منطقية عقلية حول الأسئلة الكبرى عن الوجود ، ولكن هذه القضايا لا يمكن اختبار معانيها ولا التعرف إلى صدقها ووجب التصديق بها عقلياً ، لا تعدو أن تكون محض قضايا إسمية تشير إلى مدلولات شبحية .

ومع أن هذا التعريف يسيء كثيراً للدين ( لأنه يجوفه من المعنى ويحيله إلى نسق منطقي من الأفكار التي لا يوجد طريقة لفهمها أو إدراك معانيها ، والانتماء له يكون بدافع الخوف والفجوات المعرفية ، وليس هناك ما يبرر بأي ميزان قيم الانتماء لهذا الدين ) إلا أنه التعريف الأكثر استخداماً على نطاق العالم العربي ، خاصة في المواقع التي يغلب عليها الطابع الأكاديمي والخطاب الحداثي.

وإما أن يُعرّف الدين على نحو غير واضح المعالم ، فهو تصديق قلبي جازم مقترن بالعمل ومجموعة منظمة من المعتقدات والأعمال التي كل من ينتمي لها يكون متديناً بالدين الخاص بها، وهذه الأمور تعمل معاً كالأغلال والأصفاد التي تعيق حركة الروح والعقل والحياة إلا في نطاق محدد.

وبكلا الحالتين تجد أن الدين يتم تعريفه كما لو أنه ظاهرة تختص بالإنسان وتتعلق بوجود نظام معتقدات وتشريعات تشكل قضايا عقلية إسمية، لها خاصية التقديس وصدرت من مورد (يُعتقد بعصمته)، وكما لو أنه يجب أن يكون من مصدر تاريخي يتم رفعه عن النقد بالنسبة لمعتنقيه. وبهذا يتم إقفال باب الإدراك عن البحث في معاني هذه المعتقدات والقضايا مما يسعد المتدينين ، ويعطي للماديين الصلاحية للتعامل معها كظاهرة تاريخية لا يمكن إدراك معانيها.

ذلك التعريف البشري للدين خطِر جداً، من حيث أنه يضع القضايا الدينية في موضع النقيض للقضايا الواقعية وبالتالي يكون الدين نقيضاً للعلوم الطبيعية ، على أساس أن المعرفة الدينية مجرد تسليم بكلام منقول بينما العلوم الطبيعية هي التي تبحث في واقع الحياة ، وهذا يعني أن الواقع منفصل عن المعرفة الدينية، وأنه صار من تخصص العلوم الطبيعية وأن الدين لا يمت للواقع بصلة حقيقية، وبالتالي سيكون الواقع معزولاً عن أي نظرية دينية ولا يمكن حينها التحقق من الدين ، بمعنى آخر ، سيكون محض لغو كلام.

هذه كانت دعوة الحداثة في القرن المنصرم ، انتشرت عبر أقلام لاقت جمهوراً عريضاً جداً وعشعشت أفكارها في صميم العقل العربي ، مثل عابد الجابري أو أراكون أو علي حرب أو أدونيس أو حتى جلال صادق العظم وبرهان غليون .

عزلت هذه الأقلام الموهوبة مصدراً أسمى للمعرفة عن الطبقة المثقفة من الناس في هذه البلاد، وجعلتهم يحتقرون تلك المعارف العالية مثل العرفان والأرواحية وينظرون إليها نظرة الغني إلى الفقير، مع أنهم لا يعرفون عنها أي شيء على الإطلاق. وردد السلفية التكفيرية نفس عبارات الحداثيين العرب في نقد العرفان والأرواحية وحتى أوصافهم له بالتخاريف أو اللامعقولية ، أي أن الحداثة العربية وجهت حرابها نحو الروح قبل أن توجهها نحو التراث الديني، وما حققته فعلياً كان ضرباً لعلاقة الإنسان بالروح لا لتمسكه الأعمى بالتراث.

مشروع الحداثة العربية بأسره موجه لنقد العرفان والمصادر الروحية ، وقلما تعرض لنقد المصدر التراثي من حيث هو كذلك ( من حيث هو تراث منقول ).

يريدون أن يقولواً إن الروحانية هي المشلكة ، وليست الإخبارية أو الراديكالية ، يريدون أن يقولوا إن المشكلة في وجود مصدر روحي متعالي للمعرفة ، ففي رؤيتهم لا فرق بين هيجل وبين المروجين العرب للخرافة ، رغم أن هيجل صاحب أدق منظومة معرفية ووجودية في التاريخ الغربي، لكنه بنظرهم مجرد مشعوذ.

لا يهمهم بعبارة أخرى هل الشخص الذي يتحدث مدعي أم لديه نظام دقيق، إنه دائماً موضوع للتكذيب والاستهزاء ما بقي يتحدث عن الروح.

إن الحداثة لا تهتم كثيراً بنقد اتباع التراث أو الروايات ، بقدر ما تهتم بإحباط أي وصول للناس إلى معرفة روحية خالصة.

هذا الانشغال المزدوج بتاريخانية الدين من قبل المادي والأصولي معاً فكل ما يعمل عليه إبعاد جوهر الإدراك عن فحوى الحياة وكيف يتعلق الدين بما هو معرفة بالغيب والباطن ، بالحياة الحقيقية.
  • الأهم بالنسبة لمن يبحث عن دين الحق، أن يحدد أولاً : أي نوع من الدين والحق ذلك يبحث عنه ويسعى إليه ؟ هل يريد ما اصطلح عليه الناس من كلمة الدين أم شيئاً آخر ؟​
  1. أَتريدُ (أنت) و بذاتك الحقيقية … وعلى نحو مصيري ، البحث في ذلك التعريف الذي اتفق عليه الناس على أنه الدين وتراه يخدم تطالعاتك الكُبرى من وجوديتك ؟​
  2. هل يساعد ذلك التعريف في رحلتك الحياتية الحقيقية ؟​
  3. هل هناك علاقة بين لفظ الدين عند الناس وفي الحياة الحقيقية ؟​
  4. لنفرض أنك الآن لست متديناً … هل مجموعة المعتقدات الافتراضية والأوامر الغير قابلة لإدراك حكمتها أو على الأقل التيقن من صائبيتها يمكن لها أن تجعلك تصل إلى الحق ، أو حتى تشكل لك أي معنى في الحياة ؟​
إذا توجهت بصفتك باحثاً عن الحق بما هو حق ، في الحياة بما هي حياة ، فإلى أين ستدفعُك الحياة الكلانية ورؤيتك الإدركية لها ؟ ماذا سيشكل لك البحث عن ما يمكن أن تسميه "دين الحق" ؟

أي معنى للدين هو ما سيكون لله (قيمة) ضمن الحياة الحقيقية وخارج فهم الناس ؟

لقد لاحظت الآن … أنك تقحم إدراكك عنوة بسجن مصمم وفق ما يقرّه الناس ، ولذلك لا تتصل بالمعاني الحقيقية … وتُشغل كامل حياتك بما يفهمه الناس ، إنك مسجون ضمن إدراك الجماعة معاً ، سواء للدين أو للعلم أو لأي شيء آخر … هذا ما يصطلح عليه ( أنسنة الروح ) أو منع الروح من إدراك شيء لا يدركه عامة الناس وهكذا تنحبس الروح في ناسوتها.

ليكن بعلم القارئ المحترم … أن عامة الناس حين يدركون شيئاً معاً فذلك يستدعي أن يكون المعنى موضوعياً بحيث لا يدركه كل واحد منهم على حدى ، لذلك مفهوم الوعي مثلاً غير مُعرّف في قاموس الناس ، لأن الوعي ذاتي وكل إنسان يدركه لوحده، هذا إذا كان كل إنسان يدرك وعيه فعلاً.

ذلك يعني أن الناس لن يدركوا المعاني الحقيقية والمطلقة بشكل جماعي أبداً، على الأقل في ضمن هذه الدنيا ، لأن الحقائق العليا والمعاني المُطلقة يجب أن لا تكون مجرد موضوع خارجي تتعرض له الحواس ويحتمل الصدق والكذب، وهذا يعني أنها ليست معطًى فيزيقياً ، مثل المادة والشموس الفلكية الدنيوية، والدول ، والتاريخ … والسبيل الوحيد لتناقل الحديث عن المعاني الجوهرية والحقيقية هو لغة الرمز ، والإشارة إلى المناهج الممكنة لكل واحد على حدى ليحقق إدراكه لها.

إذن لماذا سميت هذه الظاهرة البشرية الجماعية بالدين طالما أنها لا تنتمي إلى مجال الجوهر والحياة الحقة والمُطلق ؟ ومن الذي حُق له أن يسميها كذلك ؟

إنهم عامة البشر المغيبين ومن وراءهم المهندسون للعالم، الذين يريدون أنسنة الحقائق العليا … وأسر الروح في ناسوتها

إن المتدين أيضاً يريد أنسنة الحق من حيث لا يحتسب ، فهو يدخل الدين بدافع الرغبة بشيء ما ، والخوف من شيء ما ، ثم تكون هذه المعتقدات التي يتنباها مجرد مصداق لدوافعه اللاشعورية ، إنه لا حقيقة في الانتماء الديني عادة عند أكثر الناس ، إن دينهم مجرد إسقاط لرغبات ومعتقدات اللاشعور.

فهل هذا ما تقصده بالدين حين تقول ( ما هو دين الحق ) أو ( ما هو الدين القيم ) ؟ هل تقصد : ما هي مجموعة المعتقدات العقلية والسلوكيات المصادقة لها التي يُفترض أن تتوافق مع الحقيقة والقيم ؟!

الحقيقة لا تتوافق مع المعتقدات ، لأن المعتقدات تتحدث عن شيء غائب ومفارق على نحو دائم، وحين تغيب الحقيقة عن إدراكك لا يعود لك اتصال معها حتى تقول إنك تدين بدين الحق، وكذلك القيم أمور خالصة ولا يمكن الإشارة إليها في الواقع الموضوعي أو الاجتماعي.

إذا كان الدين مجموعة معتقدات وطقوس للفرد والجماعة والدولة كما يصطلح أكثر الناس ، فما هو معيار الحق الفاصل بين مختلف أنواع المُعتقدات ؟

ما يجمع عليه الناس هو المنفعة والاقتراب من العقلانية ، وكلاهما لا يعبر عن الحقيقة وإنما عن ( الطبيعة الناسوتية )، التي تقيّ> الروح …

الإنسان لا يريد إلهاً ، يريد البقاء في ناسوتيته … حتى ولو غير المسميات وعقّد الأمور.

حين نقول "معنى الكلمة الحقيقي" ، فيجدر بهذا المعنى أن يكون غير ظني - وهذا أقل ما يمكن توفره في قضية تنتمي إلى مجال الحقيقة - ولم تقده الافتراضات إلى وعيك ، إنك تدرك تماماً أنه المعنى الذي "تقصده" من الكلمة بكل دلائلها.

ثمة عِلّة تجعلك تدرك أن هذا بالضبط هو المعنى الذي أردته من كلمة ما، وأن كل سيترتب عليه بحثك ونتائجه مقرون به، ، هذا ما يجعله المعنى الحقيقي للكلمة، ويكون ثابتاً ثباتاً مطلقاً ولا يتغير بتعاقب الزمان وبتبدل المكان.

حسناً، واضح أن الإنسان المادي يكره كثيراً هذا الحديث ، لأنه لا يريد الحقيقة، ولكن دين الحق يجب أن يبدأ من الحق ، وإلا فلن يصل إليه ! إذا كنت متديناً وتدعي أن دينك هو دين الحق فيجب أن يكون فعلاً قادراً على إيصالك للحق ، وهذا مختلف عن محض الراحة من عناء البحث.

وكيف لك أن تدعي أن دينك هو دين الحق ، وتبدأ مع الآخر الحوار على هذا النحو وأنت لا تدرك الحق الذي فيه ولا يمكنك الدفاع عنه بشكل منهجي دقيق وراسخ إذا وقع حوار حقيقي عن أصول الدين ؟

أنت تحاول إثبات أنك على حق … لأنك لا تحس بذلك بعُمق ، وتحتاج إلى التظاهر أمام الآخرين …

من يؤمن بالحق فعلاً … سيكون غير قابل للنظر في أعين ومواقف الناس حين يدعوهم ولن يهتم كثيراً بموقفه ضمن نسقهم وسيتعامل معهم وكأنهم غير موجودين …

وهذا يشكل خطراً على نظم البشرية الحديثة ، ولذلك يدعو أعداء الله والحق ، سواء كانوا واعين بهذه الدعوة والعداوة أو لا يفهمون ما الذي يقومون به بالضبط، يدعون الناس إلى التمسك بالعقلانية البشرية العامة ويسوقون لثباتية التفكير العام للبشر وجنون كل من يخرج عن هذا النسق …

هذا يجعل المعنى الحقيقي منفصلاً عن استخدام البشرية له، مثلاً، البشر يستخدمون كلمة الحياة، وهي عنوان يجمع تعريفات لا تنتهي، كل إنسان حرفياً له معناه عن الحياة ، ومن الناحية الموضوعية تعني الحياة (دورة بيولوجية في الزمن الفيزيائي) وهذا التعريف هو المتعارف عليه عالمياً، مع أنه لا علاقة له بالحياة على الإطلاق.

تحديد معنى الكلمة أهم بكثير من أي شيء ستبنيه عليها، إذا لم تحدد معنى الدين ومعنى الحق ومعنى القيم ، فلا داعي لتتعب نفسك بالمضي قدماً في قراءة إجابات أو سماع حوارات. وبناء على ذلك، ما يحدث اليوم من حوارات عن الأديان ، يبدأ دائماً من النقطة العقيمة ذاتها التي تجعل الحوار مرتكِزاً إلى نطاق افتراضي ، قد لا يتعلق بحقيقة الأديان ومعنى الدين.
 
الناس وخصوصاً العرب يظنون أن الدين هو مجموعة من العقائد عن الغيب والشعائر المصادقة لها، وهذا ما يجعلهم يعتقدون أن كل من يتوافق مع هذه المنظومة متدين وكل من يخالفها مُلحد، مع أن الدين ليس نقيض الإلحاد أو ما يسمى باللادينية، ولا علاقة له بأي عقيدة.

الدين حالة وجودية تتعلق بالكينونة ولا تتعلق بالشكليات أو النماذج

فلنفرض أنك عرفتَ الحق في قضية ما ، سواءً فلسفية أو اجتماعية ، عامة أو خاصة ، ثم اتبعتَ ما يقوله لك الحق وضميرك ، فإن اتباعك هذا يولّد القانون الديني الشكلاني الذي ستتخذه بخصوصها.

إذا كان منهجك في الحياة هو اتباع الحق في كل القضايا الوجودية منها والخصوصية فإن قانون الدين وهيكله ينشأ تلقائياً في عقلك ، ولا تتبناه من مصدر خارجي.

إذا كانت رؤيتك أن الإسلام أو المسيحية هي الحق وهي المثل الأعلى للأخلاق والقيم فإنك ستتبناها بشكل عفوي ، ودون أن ترهق نفسك في الدفاع والهجوم.

إذا كانت رؤيتك أن الإلحاد صحيح ، فستتبناه لكن من منطلق الحق ، وحينها لا يهم كثيراً ما الذي ستعتقد به بالضبط ، أنت تنطلق دائماً من نفس النقطة المطلقة وهي رؤية الحق واتباع الضمير.

هذا ما يفترض أنه السبب في تدين المتدين ، لأنه إذا لم يرى الحق فيما يدين به ، فإنه أقرب إلى الخوف واليأس منه إلى الإيمان والإدراك لما يفعله ، ودينه سيكون حتماً ناقصاً ولو قام الليل إلى أبد الآبدين حتى يصلح الله شأنه.

يبدأ الدين إذن من نواة أعمق من العقيدة الظاهرية ، يبدأ من لحظة من اليقظة والإدراك إذا كان ديناً للحق ، ثم تصادق على نواياه قوة العقل وسلوك الجسد ثم البيئة والعلاقات والتفاعلات الزمنية بأسرها.

الدين فعلياً أمر وجودي زمني ولا يوجد كائنات متدينة وكائنات غير متدينة

ولكن ماذا يعني الإلحاد إذن ؟

إذا أخذناه كرفض لأي منظومة عقائدية حول الخالق وهو الاصطلاح الأكثر شيوعاً فإن المُلحد قد يكون مؤمناً باصطلاح القرآن … لأن الله عز وجل لم يأمر بتكوين صورة ذهنية ثم التنسك لها ولكن أمر باتباع الحق واتباع الضمير [ الإيمان ] :

{( وَالْعَصْرِ (*) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (*) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )}

{( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ )}

المؤمن هو من يتبع الحق ، وليس هو من يتبع عقيدة مرسومة ومنمذجة ، وهذه العقيدة ما كان لازماً اتباعها إلا بقدر ما تكون من الحق لإدراك القلب والعقل والنفس …

{( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )} {( وَمَا يَجْحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلْكَٰفِرُونَ )} {( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ )}

الكافر يجحد بآيات الله ، التي تستيقنها نفسه ، ومن باب البغي والغرور وسوء الخلق. هذه معايير الله في صفة الكفر ، أأنتم أعلم أم الله ؟

لو أخذنا الدين كطقوس وشعائر ومعتقدات ، فهناك سبب داخلي لتنبيها وهو الذي يشكل جوهر الدين الحقيقي.

بالنسبة للإنسان المتدين بدين تقليدي ، يوجد لديه رغبة بتبني هذا الدين تقع في مستوى معين من إدراكه أو عقله ، تجعل الدين ملازماً له ، لأنه يشكل معنىً دلالياً بالنسبة لهذه الرغبة.

الدين إذن له نواة في تكوين شخصية الإنسان ، وهذه النواة هي جوهر الدين الحقيقي وأما الطقوس الجسدية والمعتقدات الصورية فهي غلاف خارجي للنواة، قد لا يكون له قيمة بحد ذاته. الغلاف الديني يتكوّن من تفاعل الوعي الراغب مع البيئة الخارجية التي يحاول من خلالها أن يحقق الرغبة.

فلنفرض أن شخصاً يعتقد أنه سيدخل الجنّة إذا فعل بعض الأعمال ، إذن هو يرغب بشيء ما من دخوله للجنة ، والأعمال بالنسبة له سعي يساعده للوصول إلى هذا الشيء.

إن ما يرغب به في أعمق أعماقه هو معبوده الحقيقي ، والذي يشكل مسار الدين طريقاً إلى تحقيق الوصول إليه ، ولو أنه وجد طريقاً أفضل لما تمسك بنفس هذا الدين بالذات ، هذا الذي يرغب إليه هو ما يعبده ، والإله بالنسبة له بوابة العبور نحو هذا الشيء.

من الواضح وجود نوع من الانفصال في الرؤية ، بين الإله الذي يعبده ويرغب إليه وبين الإله الذي يسمح له بالتواصل مع الإله الأول ، الإله الثاني يكون أشبه بالمؤدّب والمدرب أو حتى بالمعاقب بينما الإله الأول يكون أقرب إلى الغاية الحقيقية من تديّن الكائن .
ما يريده الإنسان من الجنة أو من طريق الدين ، الرؤية والاتحاد مع جمال لا حدود له وسعادة غامرة ، أو يريد الحرية المُطلقة ، أو يريد الحقيقة المُطلقة أو أي قيمة عليا فإنه دائماً يسعى إلى قيم ، الحق الذي يتجلى بتلك الأمور هو من يعبده الإنسان فعلياً ، بينما يسعى المتدينون للدخول من بوابة افتراضية إلى رحاب ذلك التجلي ، فهو يطلب ذلك الجمال المُطلق لتجلي الرب ، من خلال عبادة الرب كما يصوّره الدين الذي يدينون به ، وهذا الرب التصويري لا يعبدونه فعلياً ولكنهم يعتقدون أنهم يحتاجون إليه لكي يصلوا إلى الرب الحقيقي.

الدين إذن هو نواة تتشكل منها هياكل توضح الطريق الموصل من النواة إلى الغاية ، وهذا الطريق يتناسب مع البيئة الخارجية وما فيها ليحقق عبرها النية الداخلية.

الدين رحلة وليس نموذجاً ، رحلة النية نحو التجلي ، التحقق الزمني هو غاية الدين النهائية والنواة هي الرغبة التي تؤدي إلى السعي والتحقق ، كل إنسان لديه نية ونواة ، كل كائن حي لديه نية من الأعمال التي يقوم بها ، النوايا المظلمة هي عبادة آلهة الظلام ، عشتار وبعل وأفرودايت ونحوها ، هذه الأشياء تتجسد زمنياً عبر فعل الكائن الراغب رغبة ظلامية ولذيلك هو يعبدها ولو لم يسمها بالإسم ، الذي يحب الفتنة والخيانة والضياع في الجنس يعبد أفرودايت وعشتار ، الذي يحب التسلط على الآخرين يعبد مبدأ بعل الزمني ، هذا يعني أن بعل يتحقق زمنياً من خلال كينونة من يطلب تلك الأمور، وأفرودايت تتحقق زمنياً في كينونة من يضل النا بالجنس والمخدرات.

سأذكر لك بعض آيات الله في كتاب القرآن الكريم لتتأكد من كلامي :

{( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )}

{( مالك يوم الدين )}

{( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )}

لاحظ أن كلمة الدين مرتبطة بالدينونة والتداين والدَّين والدنو والإدانة

كلها تشير إلى تحقق في الزّمن لأمر باطني

وبالحقيقة إلى إيفاء الله لنوايا الناس [ الدينونة ] أو الانعكاس الزمني لما في الداخل ، يقول السيد المسيح :

"لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ."



الإلحاد هو نُكران النوايا الحقيقية والصلة بالحقيقة المطلقة وتفضيل الغفلة عنها ، والجحود بإدراك الجمال وتجلي القيم ، لأجل الرغبات والغايات الدنيا التي يوقظها اللاشعور

الإلحاد دين … له نواة وعقائد وسلوكيات وكل خصائص الدين … فقط أنها ليست محددة بمسار تاريخي وراثي

الاعتقاد لا يعبر عن الحقيقة الكامنة …

الاعتراف ب(فكرة) وجود خالق للكون يعني أنك لا تتصل بمعنى ذلك ذاتياً

الاعتراف موجه نحو الخارج ، والإيمان لا يتوقف على الخارج

إذا كنت تحس فعلاً بالخالق وأنه خلق فلا داعي أصلاً للتفكير بالأمر أو حتى أن تقوله بينك وبين نفسك … إذا كنتَ مرتاباً فيجب أن تبحث وتتعرف إلى الله ، لا أن تستسلم للمعتقدات الجاهزة ، لأن الفكرة لا تساوي في حساب الله شيئاً.

الفكرة عن خالق تحكي عن الوظيفة الكونية اللازمة التي تنقص هذا الكون لتفسيره ، فكرة كهذه لن تعبر عن جماليات ووجدان المعرفة بالخالق ، ولكنها ستنجح بتحويل الوعي إلى حالة من الخمول اللاشعوري وقطع الاتصال مع الحقيقة.

بعبارة أدق ستجعلك الفكرة غافلاً … إنها تأسر إدراكك عن التواصل مع الله

ومن يعتقد بفكرة وجود خالق عقلياً فكل ما يفعله أنه يحسب الأرباح والخسارات الممكنة لما يملكه زمنياً ونفسياً ، والذي هو معبوده الحقيقي ، ثم يتصرف بناء على حساباته المختلطة بالخوف من المجهول والرغبة بالانشغال عن البحث.

هل هذا ما تريد حقاً الوصول إليه ؟!

عندما أقول لك هناك تنانين في الكوكب المجاور وتصدق بذلك أو تكذب به ، فكلا الفعلين تصديق وتكذيب تفكيري ، لا على مستوى الوعي والأخلاق

الاعتقاد ب( فكرة ذهنية ) أن هناك خالقاً للكون والتوقف عند هذه الفكرة لا يعني أننا تجاوزنا الإلحاد وأن الإنسان دخل الإيمان …

والتصديق والاستسلام لنماذج تصوّرية ذهنية عن هذا الخالق لا يعني أنك مؤمن ولست ملحداً … إذا كنت تعتقد بوجود الخالق ولا ترى أنه يسمعك ويراك ويستجيب لك وتحسب أنه أوكلك للأسباب إيكالاً نهائياً ، اسمح لي أن أقول لك إن العلة في دينك …

الإنسان لا يقيم صلة مع الله باتباع أديان محددة مسبقاً … لأنك إذا كنت تفعل ذلك فستبدأ دائماً من التفكير وليس من الإدراك ، ومن البيئة والأسباب وليس من النواة القيمية والحياة ، وهذا هو مربط الفرس …

يجب أن تسبق النية والقيمة والضمير والوعي كل سلوك وفكرة لك وتعلو على كل معطيات الزمن … حينها يفتح باب الإيمان الحقيقي

لأن الله ليس بالفكرة … إنه الحي … الذي جاءت منه كل حياة ، والقيوم الذي كوّن الزمان من القيم

و في يومٍ من الأيام وقف محي الدين ابن عربي في الصالحية أحد أحياء دمشق و قال أمام جمعٍ من المنافقين القادمين للصلاة و الطامعين ببضعة دنانير: "إن ربكم في ملآتي (عبائتي) و إن معبودكم تحت قدمي هاتين" و ما إن نطق بها الشيخ الجليل حتى حميت رؤوس المجتمعين عليه و صاح كل -على مذهب سعد الحريري- "يا غيرة الدين" ..و أعلن الناس أن هذا الشيخ مرق و فسق و تزدنق و وجب هدر دمه، و بالفعل قدموا لمحاكمته و قتله، فقال لهم: "لن تعرفوا حقيقتي حتى يدخل السين بالشين"..
و بالطبع ما كان أحد من أولئك ليفهم أن ما قصده في مقولته "إن ربكم في ملآتي" هو أن الله عز وجل موجود في كل مكان و منها عباءته أو جبّته (يروى أن الحلاج قال كذلك قبل صلبه: إن الله في جبتي) (والمقصود في صدره و قلبه و هذا ما يجب أن يكون عليه كل إنسان من هذا الإيمان، أي أن يشعر بوجود الله عز و جل أينما كان و في أي وقت)، و أما عبارة "و إن معبودكم تحت قدماي هاتين" أي أن ما كان الناس يعبدونه حقيقةً هو المال و الذهب الذي وجد تحت منبر الشيخ ابن عربي.
 
"الإنسان كائن متدين" فراس السواح.

فصل في الاسم والتعريف :



بما أن بحثنا اليوم عن الدين فيجب أن نستدرك السبب الذي يجعلنا نبحث عنه، وهذا السبب سيجعلنا نفهم أكثر ما الذي نبحث عنه بالضبط.. فقد اعتاد الناس على التلقي السالب للمعتقدات والأسماء والإشارات ولمعانيها الدارجة دون تحقيق ، وهذه طريقة لا تفيد الباحثين ، وإنما تفيد العامة في شؤون العامة :

لذلك كانت وسيلة الاستدلال على المعنى سيراً من الكلمة نفسها ومن مصفوفة اللغة نفسها هي وسيلة للعبور من غياب رمزي إلى ضباب من الرموز الغائبة الأخرى ، التي تنظم المعنى في تعريف مصقول ومنمق ومغري للدراسة الأكاديمية والبحوث الممنهجة في التاريخ ، ولكنه لا يقدم أي خبرة إدراكية حقيقية للإنسان ، ولا يخدمه بأي شيء على الإطلاق ، لأنه لا يناقش حالة معنوية ، بل تجميعة اسمية مولفة على نظام ممنهج داخلياً ... وهب أن هذا هو معنى كلمة الدين ، فما الذي سيفيدك أن تعرفه عن شيء ليس له معنى حقيقي تختبره بالنسبة لك ؟ أنت لا تختبر التعريفات الشائعة للدين ، اعتقادك أو عدمه بقوة ما ورائية ليس اختباراً إدراكياً لتلك القوة ، وإنما هو اختبار للاعتقاد المعرفي حولها ، وهذا النوع من الاختبارات لأشياء غائبة عنك وعن حضورك الآني المُباشر ، هو مجرد لهو لغوي ، واسم الدين بهذه الحالة لن يقدم لك معلومة أصيلة ، بل مجرد ربط لا أساس له بين مجموعة خبرات عن شيء لا يهمك أصلاً.

والآن إذا قلتُ لك ما هي السعادة ، هل ستعرفها لي تعريفاً عقلياً ؟ أنها هرمونات ما ، أو خبرة في موضوعات محددة وبظروف معينة ؟ هذا التعريف جيد إجرائياً ، ولكنه لا يعطني معنى السعادة ، بل متعلقات خاصة بها ، وانا لن احتاج تلك التعلقات لأختبر معنى السعادة إذا كان حاضراً مباشرة لي ، ولكنك ستحتاجها حين تفقدُ معنى السعادة من حضرتك الآنية ، وتصبح السعادة غائبة عنك ، فتلاحق الظروف التي تظنها تجلب السعادة ، تماماً كما حين تغيب نكهة القهوة عنك لشهور ثم تشتاق إليها ، فتسميها بالقهوة لتطلبها ، وتستخدم أدواتك لإعاداتها ، ولكن الاسم والأدوات ليسا هما القهوة ، إنهما وسيلتك لاستحضار القهوة.

كذلك الأمر بالنسبة للمعادلات الرياضية والفيزيائية ، هي محاولة لاستدعاء شيء من الواقع لغرض ما ، ولكنها ليست الواع نفسه ، ومهما تقدمت تبقى مجرد وسائل محدودة النطاق.

أما الطريقة الصحيحة فهي معنى الكلمة تستمده حصراً من الخبرة الإدراكية المُباشرة ...

أنت تختبر موضوعاً ما أو شعوراً ما ، ومن ثمة تُطلق عليه اسماً أو رمزاً أو تعريفاً ، وتربطه بأدوات وإجراءات وظروف ... إذا كان المعنى غائباً عن الكلمة وكانت الكلمة وضعية المعنى كما هي وضعية الرمز ( معناها وترميزها عبثيان ومعدوما التأصل في خبرة الإدراك ) فهذا يجعل الكلمة بلا قيمة حقيقية بالنسبة إليك ، حتى ترتبط بمعنىً حقيقي مُدرَك مرة أخرى ... غياب الأصل المعنوي للألفاظ ، وأسبقية اللفظ على الإدراك المعنوي ، ليست فكرة جيدة في تكوين دلالة الكلمة ... تذكر أنه بالنهاية لا يهمك أن تعرف ما تعنيه كلمة ما استخدمتها مجموعة ما ذات يوم ، وإنما أن تكشف حقيقة العالم بإدراكك المباشر ثم تختزنها وتنقلها على هيئة رموز ...

فيفترض أن تكتشف أولاً حالة إدراكية خاصة ، ثم تطلق عليها اسماً مناسباً ، لا أن تتلقى لغة الآخرين على نحو السلب المُطلَق والتكرار العديم. وعلى هذا النحو ستكتشفُ ما هو الدين الآن ...

التعريف الرسمي في الأوساط الأكاديمية للدين هو أنه محاولة لسد الفجوات المعرفية والتخلص من الخوف والقليل من الوجود ، وهذا ما أسميه ب"الموقف الظاهري الساذج للأمور" والذي يكثر التنظير لأدلته وسرد المقالات والبحوث لأجل إعطاء هذا "الموقف الساذج" نوعاً من العمق والهيبة الكذابة. هذا التعريف هو نظر ساذج يقوم بمصادرة البحث وا،لتحقيق على نحو ما تفعله الأحكام المسبقة ( وهذا الوصف عبارة منمقة علمياً للتعبير عن التسليم الأعمى ).


حقيقة الدين : ما هو المبحوث عنه بالضبط ؟



إذن نحن لسنا نبحث من حيث انتهى غيرنا ، ولا نبحث عن قضية تهتم بها البشرية ، وإنما نبحث عن مسألة حيوية تهم الذات بالمقام الأول ، وبالتالي تنكشف للذات أهميتها إدراكياً ولا تتلقاها من الافتراض المجتمعي.

نحن أمام تصورين مختلفين للدين ... تصور يبدأ من دراسته كظاهرة تاريخية محدودة حدود التاريخ ، وبالتالي يفهمه وفق انكشافه التاريخي بنظرة تحاول التركيب والتعميم بين جزيئات الأديان ، وهذا هو السير من الرمز إلى المعنى ومن الوضع إلى المطلق.

وتصور آخر يبدأ من دراسة الدين كحقيقة ذاتية يختبرها الإنسان بكلانيته وبوجوده الحيوي الخالص، ومن خلال الخبرة الدينية وحدها يمكن تصنيف مراحل الدين ومكوناته وأنواعه ، ويمكن فهم جوهره ووظيفته.

البحث الأول تاريخي خالص ، والبحث الثاني وجداني فينومينولوجي. ومنهج هذه الدراسة هو السير من الإدراك لأنه غاية الإنسان والحياة تبدأ ذاتية وتنتهي ذاتية ، وإن لم يدركها ذاتياً فلن يصل لها أبداً ولن يبحث عنها أبداً ، وكذلك علمه بالوسيلة التي توصله لما يبحث عنه ، منظومة العلوم الحقيقية بالنسبة لأي إنسان هي منظومة ذاتية بامتياز ، أما العلوم الموضوعية الخارجية فهي وسيلة انتفاع حين تتغيب الحقائق عن الحضور المباشر نحو الذات فتضطر هذه الذات إلى البحث عن الغائب بوساطة حاضر مما ينشئ نموذجاً عن الغائب ، وهذا النموذج هو العلم الموضوعي ، وهو مهم للاستخدام فقط ولكنه لا يحتوي بذاته أي معنى، فلا معنى أن تقول إن الجاذبية تخلق ثقباً أسود أو هناك كون موازي ما ، لأنك تتحدث عن أشياء غائبة عنك ، وخيالك الخصب الذي يصورها لك هو الوحيد الحاضر إلى إدراكك المباشر ، أما الجمل نفسها فتحكي عن سلوك الوقائع الفيزيائية لا عن الوقائع نفسها ، وبالتالي تتخذ قيمتها من مقدار الانتفاع بفهم هذا السلوك واستخدام الفهم لأغراض ما.

الإيمان بالإله الشخص ليس مستلزماً من مستلزمات الدين كسمة سيكولوجية حيوية ، ولا من مستلزماته التاريخية، والاعتقاد بوجود فجوات في حكمة نظام الوجود لا يمكن ردمها إلا بواقعة تتجاوز النظام نفسه على نحو اختراقي منفصل عن النظام، ليس سمة متأصلة في الدين، ويمكن للدين أن يوجد بدونها سواءً في بعده السيكولوجي أو في أبعاده الميثولوجية التاريخية ( وقد حدث ذلك فعلاً في تلك الأديان التي تتجرد من الأحكام العقلية المسبقة، وهي ما يسمى بالغنوصيات والأرواحيات، وكذلك في الأديان التي تتجاوز مسألة الإثبات بالخوارق كما هو الحال في البوذية والهندوسية والطاوية).
 

حقيقة الدين : ما هو المبحوث عنه بالضبط ؟


إذن نحن لسنا نبحث من حيث انتهى غيرنا ، ولا نبحث عن قضية تهتم بها البشرية ، وإنما نبحث عن مسألة حيوية تخص الذات بالمقام الأول ، وبالتالي تنكشف للذات أهميتها إدراكياً ولا تتلقاها من الافتراض المجتمعي.

أنت أمام تصورين مختلفين للدين ... تصور يبدأ من دراسته كظاهرة تاريخية محدودة حدود التاريخ ، وبالتالي يفهمه وفق انكشافه التاريخي بنظرة تحاول التركيب والتعميم بين جزيئات الأديان ، وهذا هو السير من الرمز إلى المعنى ومن الوضع إلى المطلق.

وتصور آخر يبدأ من دراسة الدين كحقيقة ذاتية يختبرها الإنسان بكلانيته وبوجوده الحيوي الخالص، ومن خلال الخبرة الدينية وحدها يمكن تصنيف مراحل الدين ومكوناته وأنواعه ، ويمكن فهم جوهره ووظيفته.

البحث الأول تاريخي خالص ، والبحث الثاني وجداني فينومينولوجي. ومنهج هذه الدراسة هو السير من الإدراك لأنه غاية الإنسان والحياة تبدأ ذاتية وتنتهي ذاتية ، وإن لم يدركها ذاتياً فلن يصل لها أبداً ولن يبحث عنها أبداً ، وكذلك علمه بالوسيلة التي توصله لما يبحث عنه ، منظومة العلوم الحقيقية بالنسبة لأي إنسان هي منظومة ذاتية بامتياز ، أما العلوم الموضوعية الخارجية فهي وسيلة انتفاع حين تتغيب الحقائق عن الحضور المباشر نحو الذات فتضطر هذه الذات إلى البحث عن الغائب بوساطة حاضر مما ينشئ نموذجاً عن الغائب ، وهذا النموذج هو العلم الموضوعي ، وهو مهم للاستخدام فقط ولكنه لا يحتوي بذاته أي معنى، فلا معنى أن تقول إن الجاذبية تخلق ثقباً أسود أو هناك كون موازي ما ، لأنك تتحدث عن أشياء غائبة عنك ، وخيالك الخصب الذي يصورها لك هو الوحيد الحاضر إلى إدراكك المباشر ، أما الجمل نفسها فتحكي عن سلوك الوقائع الفيزيائية لا عن الوقائع نفسها ، وبالتالي تتخذ قيمتها من مقدار الانتفاع بفهم هذا السلوك واستخدام الفهم لأغراض ما.
الإيمان بالإله الشخص ليس مستلزماً من مستلزمات الدين كسمة سيكولوجية حيوية ، ولا من مستلزماته التاريخية، والاعتقاد بوجود فجوات في حكمة نظام الوجود لا يمكن ردمها إلا بواقعة تتجاوز النظام نفسه على نحو اختراقي منفصل عن النظام، ليس سمة متأصلة في الدين، ويمكن للدين أن يوجد بدونها سواءً في بعده السيكولوجي أو في أبعاده الميثولوجية التاريخية ( وقد حدث ذلك فعلاً في تلك الأديان التي تتجرد من الأحكام العقلية المسبقة، وهي ما يسمى بالغنوصيات والأرواحيات، وكذلك في الأديان التي تتجاوز مسألة الإثبات بالخوارق كما هو الحال في البوذية والهندوسية والطاوية).

البحث الحيوي الفينومينولوجي في الدين

العلم بين الذات والموضوع ورؤية الوجود من منظورين ...

منهج العلوم الموضوعية


تتسم الظواهر التي يدرسها المنهج العلمي الموضوعي بأنها 1. من حيث الوجود القابل الإدراك فهي موضوعية محلية يمكن لجميع المراقبين رصدها أو الحديث عنها .2. من حيث العلة في الانوجاد فهي سببية داخل الكون ويمكن تفسيرها بعناصره وحدها ، أي أنها لا تحدث إلا ضمن حيثيات المادة ويجب اختزال أي ظاهرة نفسية أو غير مادية إلى تلك الحيثيات.


الموجودات برؤية العولمي تقع في أن تكون : ظاهرة موضوعية يمكن وصفها بلغة موضوعية ، وبالتالي إما أن تكون هذه الظاهرة مجرد مواد ، أو أفكاراً مفارقة بذاتها للذات وحاضرة بصورها، وتنتمي إلى النسق الموضوعي العام للأفكار البشرية ، مثل قوانين المنطق والرياضيات والمعقولات الفلسفية وسائر الأفكار المجردة التي يمكن الحديث عنها بين جميع الناس لأنها مصادقة للواقع الموضوعي ويمكن اكتشافها فيه. وبالتالي إن أي شيء يخرج عن هذا الإطار غير قابل للوجود وبالتالي غير قابل للدراسة أصلاً. بما في ذلك جواهر الأمور وذاتياتها ، فالشيء في ذاته ليس موضوعاً قابلاً للدراسة في علوم الحداثة والمادية.

هذه ليست مجال بحث بالنسبة للعولمي، هذه موضوعات ثابتة مسبقة ومسلم بها على نحو الإجمال لا التفصيل.

هذه العلوم في واقع الأمر ، مجرد توصيفات لغوية متراكبة مع بعضها ومعقدة تعقيداً شديداً، خارج النسق اللغوي لا وجود لشيء يدرسه العلم الحديث والمادي، وداخل هذا النسق ليس هناك ذاتيات، هناك "علاقات ونسب" فحين تدرس الجاذبية تدرس نسبتها نحو المواد والأشياء وقياس هذه النسبة ، وحين تتعرف على شخص ما تركب في ذهنك صورة عن علاقته بالعلم وعلاقته بالدين ، وعلاقته بأهله وبالناس والمال والعمل .... ونتيجة هذه الصورة التركيبية يأخذ الموضوع بالنسبة لك هُويته ، وحتى أن عناصر التركيب في مثل هذه الصور مركبة هي الأخرى من علاقات مع أمور غائبة أخرى، تماماً كفهك للمواد التي تدرس من خلالها الجاذبية عبر علاقتها بمواد أخرى ، وفهمك للأشخاص الذين يتعلق بهم شخص ما عبر علاقتهم مع أشخاص آخرين ... وكل هذه العلاقات خارجية ، ترتبط ببعضها البعض وتربط بين الأشياء وتتكون جميعاً في نسيج واحد ضام يسمى "الواقع الموضوعي" وضمن هذا الواقع فقط تأخذ الأشياء محض الموضوعية معانيها ، وبما أن "تذوق المعنى والعلاقة" هو شيء ذاتي ، فإن لون الشمس لا يمكن وصفه بالأصفر أو الأبيض ، أو الجميل أو العظيم واللامع ، ولكن من المسموح وصفه بـ"الأصفر" بدلالة توافقه مع كل ما يشار إليه بكلمة أصفر بالنسبة للتجربة البشرية العامة ... هل الجميع يدركون اللون الأصفر بحد ذاته على نفس النحو كما تراه أنت ؟ ربما يراه الجميع أخضراً وأنت الوحيد الذي تراه أصفر، وربما يختلف كل شخص بإدراكه لحقيقة اللون عن الآخرين، ولكن الموضوع المشترك بين الأشياء التي يقال لها صفراء هو أنكم اتفقتم على "الدلالة التوافقية" للون الأصفر، بأنه نفس اللون الذي تتلون به الشمس ، وصفار البيض ، والبشرة الصفراء والموز ونحو ذلك. جميعكم يرى النسق الموحد للون الأصفر ، أما اللون الأصفر بحد ذاته فهو خبرة داخلية لا مجال لعرضها على الآخرين.

إذا كان كل شخص يرى الأصفر بلون مختلف ، لكنه يتفق مع الجميع على دلالة كل الأشياء التي تتصف بنفس اللون ، أي يتفق معهم على "وحدة العلاقات" التي يختص بها لون تلك الأشياء وليس على وحدة اللون نفسه.. فهذا وصفٌ علمي تجريبي وموضوعي ... ولكنه لا يقدم أكثر من هذا النسق اللغوي الذي يصف توافق العلاقات.

الدين كما يراه العولمي والعلموي : محض ظاهرة تاريخية ترتد في عواملها إلى فهم دور الإنسان في التاريخ وكيفية تفاعله التاريخي حينما سلك سلوكاً غير موضوعي الأصل يسميه العلموي بـ"التفكير السحري أو الخرافي". وحين يجب عن سؤال : كيف نشا الدين فردياً ؟ يكون جوابه منحصراً في الوصف الخارجي الذي يحيل الدين إلى تفاعل بين الهيئة الجسدية-النفسية للإنسان التي تشكلت كانعكاس للمحيط، وبين الواقع الموضوعي ، لأن الذاتية غائبة في توصيف العلموي والحداثي لظاهرة التدين وكافة ظواهر الحياة ، سواءً من حيث الإنسان نفسه أو من حيث الواقع الذي يدركه.

لأن العلموي أو الحداثي لا يبحث في الخبرة الذاتية للإنسان مع الدين، ولا يبحث في أصل المعرفة الروحية وحقيقتها، فهو يفترض مسبقاً ودوغماتياً أن الذاتية غائبة حتى عن الإدراك أو أنها غير حقيقة بالدراسة والاهتمام على الأقل. لكن يبحث في الوصف اللغوي للنسق الديني من حيث تأثيره الموضوعي على الحياة الملاحظة للفرد والمجتمع عبر التاريخ.. فيبدأ النسق بالقول إن الدين طريقة تفكير، وهو يحاول أن يجعل من الدين شيئاً موضوعياً قابلاً للبحث الموضوعي، شيئاً يمكن وصفه بلغة تصف الخبرات العامة للبشرية وما يمكن كشفه ضمن هذه الخبرات.. بطبيعة الحال يصبح الدين حينها كـ(طريقة تفكير) هو معالجةٌ للموضوعات الطبيعية الخارجية نفسها من خلال الاستدلال وإنشاء التصورات والأفكار ، وبما أنها تصورات عن الواقع الموضوعي غير قابلة للإثبات الموضوعي فهي تنتمي للمغالطة والخرافة ، وهي كذلك مرحلة سابقة من مراحل التفكير البشري لم تعد تجدي اليوم وصار البحث فيها خرافة وصار الابتعاد عنها حداثة..
 

التاريخ والدين



إن اتخاذ موقف ديني أو لاديني محدد هو مصير كل إنسان وكل كيان مدرك، يحاول البحث عن رضوان لرغبته من استمرار وجوده في الوجود ، فرغبة الانعتاق من المادية هي أعمق أسرار النفس البشرية وتفاعلها مع الزمن ، إنها تسبق كل الأفكار والرغبات الأخرى على اختلافها.. إنها لا تنبني على رغبة خارجها مثل الطمأنينة أو سد الثغرات.

وفقاً لفلسفة الرغبة ، لن تخرج هذه الحضارة البشرية من الصراع بين الرؤيتين الميتافيزيقية والفيزيائية المغلقة ، لأن كلاً من الرؤيتين تتطور سريعاً لتحقيق التفوق على الرؤية الأخرى وتجاوز العقبات والتحديات. لأن كلاً من الرؤيتين تنبعان من إدراك وجداني عميق ورغبة أصيلة في النفس والروح ، رغبة في التحرر من العالم المادي ، ورغبة في السيطرة عليه ... رغبة المتدين الحقيقية ورغبة اللامتدين الحقيقية ما وراء كل الغايات والرغبات.

يسير التاريخ الفردي والحضاري لإرضاء الرغبات المتصارعة ، ومن وراءها رغبة الحياة ، مستخدماً هذا العالم المادي الموضوعي كآلة لخدمة رغباته ، وليس كغاية ترضي هذه الرغبات. أي أن الإنسان لا يسعى للمادة بما هي مادة وللزمن بما هو زمن، وإنما يسعى لجعل الزمن والمادة موافقين لرغباته النفسية المتصرعة.
 

البحث الديني القيمي مقابل التاريخي :



وليام جيمس ... أحد فلاسفة العالم الحديث الأكثر تأثيراً على الإطلاق ، وصاحب مبدأ العملانية أو البرغماتية الذي تم تطبيقه كقيمة معيارية للمنهج العلمي المعاصر في العلوم الطبيعية، يقول في كتابه قيمة الخبرة الدينية :

"الدين هو الأحاسيس والأفكار التي تعرض للفرد في عزلته ، وما تقود إليه من سلوكيات، المميز في تلك الأحاسيس أنها تنبع من العلاقة التي يشعر فيها الفرد أنه مع اتصال بما يسميه "إلهي"".

ويفرق وليام جيمس بين نوعين من البحث النقدي في الدين : الأول هو محاكمة الوجود الموضوعي والثاني هو محاكمة القيمة الذاتية. مثلاً عندما تدرس تاريخ التوراة والتوراتيين وتفسيراتهم ونظرياتهم المشتقة منها فهذا دراسة للوجود التاريخي الموضوعي للتوراة ( والقصد من التوراة هنا هو أسفار العهد القديم الخمسة الأولى ) أما عندما تبحث في ما تعطيه التوراة للذات الحية من خبرات وأحاسيس، ومعتقدات مبنية عليها فهذا مبحثٌ مختلف عن المبحث الأول ، ولا يمكن اشتقاقه منه ، فمن الممكن لشخص لا يؤمن بعصمة التوراة ولا بتاريخها ويقرؤها لأول مرة أن تحرك فيها عواطف كامنة وتوقظ وجدانه حتى يقشعر بدنه، ومن الممكن أيضاً أن يخبرك بأنه قد حدثت له مكاشفة من نوع ما بحيث أصبح يرى بعض الحقائق التي لا تدركها أبصار الآخرين ويهبك البراهين المقنعة عليها.
 

الفينومينولوجيا كمنهج لدراسة الدين ...



لقد أقصى البحث التاريخي الوصفي وهو المعتمد أكاديمياً ذلك البعد القيمي نهائياً ، ونتج عنه مثلاً أن تصبح الشامانية خارج دائرة الدين ، بينما تصبح البحوث الدينية تتعلق حصراً بأديان تدين بآلهة الشخوص ... أي أن الخلاف أصلاً ليس هل الدين هو سمة حيوية أم فعل تاريخي ضمن سلسلة التطور التراكمي ، وإنما ما هو الدن الذي يدور الحوار عنه أصلاً ؟ أنت تتحدث عن الدين وتصفه بالخرافات ، ولكنك تقصد من الدين ما لست أقصده ولا يجمع بيننا إلا الاشتراك في استخدام ( لفظ الدين ). وهذا ما التفت نحوه الباحث فراس السواح في أكثر كتبه دقة وتأثيراً وهو كتاب "دين الإنسان".

"الفينومينولوجيا هي طريقة في البحث والتحقيق تقوم على إدراك الظاهرة كما هي مباشرة بالنسبة للإدراك من غير تأويل ولا إحالة لوسيط تصوري ما، ومن ثم توصيفها بأدق لغة ممكنة ، تلك اللغة التي تعتمد على كلمات بسيطة وأولية يسهل للبشر النفاذ إليها واختبارها، أي وصف الظاهرة كما تتبدى للتجربة المباشرة ، بعيداً عن النظريات الفلسفية ( الفينومينولوجيا علم وليس فلسفة عقلية )".

تنشغل الفلسفة بالتحليل اللغوي للوقائع الموضوعية عبر تجريدها وتوصيف البنى التجريدية القائمة عليها ، وهي بذلك موضوعية المنهج شأنها شأن العلم الطبيعي وتختلف فقط في موضوع البحث لا في جوهره ، ولذلك تعتمد كل البحوث العلمية على التجريد بسائر مستوياته الفلسفية وكذلك هو المنهج العلمي ومنطق البحث العلمي وصولاً إلى التجربة نفسها ، وهي تطبيق التجريد على الواقع المحلي".

أما المنهج الفينومينولوجي والعرفاني يبحث في الظاهرة كأمر قائم بذاته، غير معتمد على مواضيع أخرى يوصف إليها ويحكم بها، وبالتالي غير معتمد على التجريد وحده أو التجريب والتوثيق ، فهو إذن بحث يختلف في لغته وطبيعته ومنهجه عن الفلسفة والعلم الطبيعي ويقع في مقابلهما تماماً.

الفرق بين المنهج الفينومينولوجي في دراسة الدين ، وبين المنهج العرفاني هو أن الأخير يدرس ديناً معيناً محدداً بذاته كما يتبدى للإدراك ، تماماً كالعرفان الإسلامي وكالكابالا اليهودية وكالبهاكتي يوغا ، وهي جميعاً تجعل المريد قادراً على تفحص الحقائق الدينية المطلقة لتجربته واختباره المباشر لكن من زاوية ذكرها في تلك الأديان ، كذكرها في القرآن الكريم ، أو كتاب الزوهار وألواح التوراة ( التاروت ) ، أو النصوص الفيدية المقدسة عند الهندوس ... ولذلك ستشمل على نوع من التعصيم المسبق والتواضع الاسمي في بعض المسائل نظراً لتلقي توجيه مسبق فيها، أما الفينومينولوجيا الدينية فهي دراسة للتجرية الدينية الذاتية ، الأعم من تجربة خاصة بأتباع دين معين ، والأعم من تجارب أتباع الأديان كلهم ، والتي تندفع من البحث الحيوي الخالص للذات وتفاعلها المباشر مع البون والوجود.
 
تعريفات الدين ومناهج بحثه

1. الدين الطبيعي :

بعض ما قيل عن تعريف الدين ... مقتبس من موسوعة لالاند الفلسفية :
"لا يمكن للمرء، دون تجاهل العنصر الأصلي والانطلاقي والجوهري للدين، أن يرده إلى مؤسسة اجتماعية أو حدثية تاريخية ، أو منظومة تركيبية من المشاعر والاعتقادات والممارسات الفردية ، أو حتى سلوك منظم للفرد والمجتمع يكون وجود الله وفهم هذا الوجود هو مرتكزه."

هذه التعريفات للدين هي مجرد تعريفات توصيفية، وليست تعريفات حقيقية .. لا يمكن أن تقول إن "هذا هو الدين" على نحو مطلق ، فهذه بالتأكيد تتعلق بالدين بشكل أو بآخر ، ولكن المتعلقات ليست هي ذات الموضوع. فعندما تصف ظاهرة فيزيائية من الخارج (كالجاذبية مثلاً) فأنت لا تدركها وإنما تدرك تأثيرها على المحيط ، وطبيعة هذا التأثير ، ولكن علة الجاذبية وحقيقة هويتها ما وراء الأثر مسألة لا يمكن وصفها بالقوانين والمعادلات. والحال نفسه بالنسبة للدين ...
"لأن ما يعتصم المؤمن به حقاً بوصفه علة لإيمانه ليس ظاهرة موضوعية . ليس فكرة أو قوة يمكن أن يمتلكها لأنه كان قد استحوذ عليها أو كوّنها ، بل هو ذات. كائن غير متصف بالحياة والإرادة فحسب ، بل أيضاً كائنٌ خفي، لا تدركه الأدوات الاعتيادية للفكر والعقل يكشف عن ذاته برحمة منه ولطف."

ولكي نشرح ذلك بطريقة أفضل ...
 

الدين منهج الارتقاء ... هيجل


الدين : هو الوعي الذاتي بالروح المُطلق على نحو ما يقدر على إدراكه روح المرء المقيد...

يرى هيجل أن التجربة الدينية تأتي من الذات ثم تتحول إلى فكرة موضوعية تسمى بالمعتقد، وطقوس وشعائر وسلوكيات توافق تلك الفكرة.

وأن هذه التجربة الذاتية تنطوي على حس صوفي خالص من الحواس المادية والأفكار العقلية، وهو اختبار مباشر لجماليات الوجود وتجليه الحقيقي، وأن سائر الأفكار والأحكام المسبقة المتعلقة ب"الروح المقيد" تمنع الذات من تحقيق الوصول الكامل إلى إدراك وفهم الروح المُطلق.

ويرى هيجل أن الدين أصالة في الوجود الحيوي، لأن الحي يسعى دائماً نحو الإدراك الذي تتحد فيه ذاته الحية مع موضوع حي، رغبة في اكتشاف سر الحياة والحضور إليه ومعه، ولذلك تسعى كافة الأديان والفلسفات والعلوم إلى نفس هذه الرغبة، وتجسد بذلك تمظهرات متعددة للدين بما هو سعي لوعي الروح المُطلق.

فيرى أن الدين ليس كائناً تاريخياً منغلقاً وعصوماً، ولكنه يتطور بتطور قدرة الروح المقيد على السعي والوصول، ولكل عصر مظهر ديني يتناسب معه ولا يتناسب مع غيره، ولا يتناسب هذا العصر إلا مع هذا المظهر الديني بالذات. ولنفس هذا السبب فإن الحضارة كلها هي سعي مبدؤه الرغبة نفسها التي خلقت الأديان التاريخية ، والحضارة هي ديالكتيك ديني يعبر عن تطور وارتقاء السعي نحو الروح المطلق من جهة وتطور القيود التي تشكل هوية الروح المقيد من جهة أخرى.

ليس تاريخ الديانات إلا تاريخ روح العالم على نحو ما يعرف نفسه على أنه روح ويعود إلى ذاته الحقيقية مقابل الصراع الذي يقوم به الغياب الموضوعي الذي ينتشر في العالم ويجذب روحه لكي لا تدرك ذاتها، ولكن هذه الجاذبية يستلهمها الغياب الموضوعي من كونه وعداً للروح بأنها ستعي ذاتها عبر تلك الموضوعية واستمرار البحث الحيوي عن الحق في الغياب الموضوعي.

ثم يتجلى هذا المُطلق الذي عرفته الذات في إطار تصوري يسمح لها بتحويل خبراتها إلى لغة، ولكن هذه اللغة ليست كباقي اللغات التي تستخدم لوصف شيء موضوعي مفارق للذات، إن اللغة العرفانية عند هيجل هي الصلة الخفية بين الرمز وبين المعنى الذاتي والتي تحيل الرمز معنىً بمجرد ذكره، فيتلاشى الوجود الموضوعي للرمز ويذوب في ذاتيته. إن لغة الدين الحق هي لغة إدراك الرموز لا لغة الرموز نفسها، وهذا هو السر في القوة الوجدانية العالية للعبارة الدينية الصريحة، والتي تستطيع التأثير على إدراك الآخر مباشرة.
 

أداب الحوار

المرجو التحلي بأداب الحوار وعدم الإنجرار خلف المشاحنات، بحال مضايقة إستخدم زر الإبلاغ وسنتخذ الإجراء المناسب، يمكنك الإطلاع على [ قوانين وسياسة الموقع ] و [ ماهو سايكوجين ]
أعلى أسفل