Ile
Galactic Wanderer
- المشاركات
- 199
- مستوى التفاعل
- 1,316
ستفهمون الان لماذا قيل عن ابن سينا زنديق ومهرطق ... لو عاد الى حياتنا الان سيقال عنه ذلك مجددا
الشكل الفردي: للانسان الكامل
بالنسبة إلى الشكل الفردي للإنسان الكامل فيمكن التوكيد أن الحلاج من أوائل الذين تمثلوا عمليًا هذا الشكل، فكانت حياتهم ممارسة فعلية له. وفي أخباره وأشعاره ما يؤكد أن الرجل كان يهدف إلى التجرد مما هو مادي وشهوي، وأنه كان يحاول العيش بمخيلته – بحسب المصطلح الإسلامي – ولهذا فقد كان قتله خلاصًا فرديًا له من عالم الظلمة والعدم، وكأن خصومه قد أسدوا إليه خدمة جليلة حين صلبوه. والحق إن الحلاج واحد من أطراف المحاولات الصوفية الفردية للعيش في العوالم الروحانية والنورانية، مع ابتذال كل ما هو جسماني وظلماني. يقول:
الفراش يطير حول المصباح. ويعود إلى الأشكال، فيخبرهم عن الحال بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال طمعًا في الوصول إلى الكمال[20].
ويقول أيضًا:
خاطَبَني الحقُّ من جناني فكـان علمي على لساني
قرَّبني منه بَـعْد بُــعْدٍ وخصَّني الله واصطفاني[21]
وعلى الرغم من أهمية الحلاج، بالنسبة إلى هذا الشكل، غير أن المنظِّر الفلسفي له هو الشيخ الرئيس ابن سينا الذي كان اهتمامه الفلسفي مُنصبًّا على معالجة النفس وكيفية خلاصها من أسر المادة، وما تفرضه من شهوات حسية زائلة.
إن السعيد الحقيقي، عند ابن سينا، هو من استطاع الاستعلاء على بدنيَّته، وجاور الروحانيات متَّصلاً بها بنفسه الناطقة أو عقله المستفاد. يقول في ذلك:
السعداء الحقيقيون يتلذَّذون بالمجاورة، ويَعْقِل كلُّ واحد منهم ذاتَه وذَوَات ما يتَّصل به، ويكون اتصالُ بعضها ببعض لا على سبيل اتصال الأجسام... ولكن على سبيل اتصال معقول بمعقول[22].
ويخصِّص ابن سينا اسم الإنسانية بأولئك السعداء أو الناس الكُمَّل، أما الناس الذين يعجزون عن الاستعلاء على أبدانهم، ولا تُسعفهم قواهم في السعي إلى المعقولات المفارقة أو الروحانيات، فلا يصحُّ أن يُطلق عليهم اسم الإنسانية الذي يقترن، عند ابن سينا، ببلوغ الكمال الإنساني المطلق الذي هو السعادة الحقيقية. يقول:
الناس المستحقون لاسم الإنسانية هم الذين يبلغون في الآخرة[23] السعادة الحقيقية وهؤلاء على مراتب أيضًا، وأشرفهم وأكملهم الذي يختصُّ بالقوة النبوية. والقوة النبوية لها خواص ثلاثة قد تجتمع في إنسان واحد، وقد لا تجتمع، بل تتفرق[24].
أما هذه الخواص، فالأولى منها هي قوة الحدس التي تعود إلى الاتصال بالعقل الفعَّال. وهذا الاتصال
وإن كان أقليًا نادرًا فهو ممكن غير ممتنع[25].
وتتعلق الخاصة الثانية:
بالخيال الذي للإنسان الكامل المزاج. وفِعْلُ هذه الخاصَّة هو الإنذار بالكائنات والدلالة على المغيَّبات[26].
ويكمن السبب في معرفة ذلك في اتصال النفس الإنسانية بنفوس الأجرام السماوية. أما الخاصة الثالثة فهي تغيير الطبيعة[27]، حيث يتمكَّن النبي أو الإنسان الكامل عامة، بما يمتلك من قوى نفسية، من أن يؤثِّر في الطبيعة، فيغيِّر مجراها، ويُحدث فيها أمورًا خطيرة كالصواعق والعواصف والزلازل والبراكين... إلخ. وينطلق ابن سينا، في هذه الخاصة، من أن
من شأن الأنفس أن تحدث منها في أبدانها حرارةٌ قوية بالفرح تكون سببًا لدفع كثير من الآلام، وبرودةٌ قوية بالغم والخوف تكون سببًا للأمراض بل للهلاك[28].
وبما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى علاقة النفس بالبدن، فلم لا تكون تلك هي الحال بالنسبة إلى علاقة الأنفس الكاملة بالطبيعة. هذه الأنفس التي تمتلك قوى تتجاوز أبدانها!
وغنيٌّ عن البيان أن هذه الخواص لا تحدث إلا بعد الاستعلاء على البدن والماديات كافة. ففي ذلك يكمن الكمال وتكمن السعادة
فسعادة النفس في كمال ذاتها من الجهة التي تخصُّها هو صيرورتها عالمًا عقليًا، وسعادتها من جهة العلاقة التي بينها وبين البدن أن يكون لها الهيئة الاستعلائية[29].
إن ابن سينا لا يعلِّق آمالاً اجتماعية على إنسانه الكامل، بل إن هذا الإنسان لا يهدف إلا إلى سعادته ولذَّته هو. فكمالُه الإنساني المطلق هو خلاص فردي له من ظُلْمة هذا العالم المادي. سواء أكان ذلك على صعيد الطبيعة أم على صعيد المجتمع. فهو لا يسخِّر قواه الإعجازية من أجل الآخرين. فالآخرون لا يستحقون اسم الإنسانية أصلاً. وعلى الرغم من أن الخلاص الفردي هو الأساس في هذا الإنسان، إلا أن ذلك لا يعني انتفاء الجانب الاجتماعي عنه. فلا بد من الاحتياز على الكمالات الإنسانية كافة، التي هي دون هذا الكمال الروحاني. أي لا بد له من الاتصاف بالفضائل الأخلاقية. بل إنه يتصف بها في أعلى درجاتها. فإذا كان هدفه فرديًا خلاصيًا، فإن هذا لا يعني إهماله لما هو اجتماعي–أخلاقي. فلقد تمَّ تنزيه السعداء أو الناس الكُمَّل من كلِّ ما يشين على الصعيد الأخلاقي. إنهم المُثُلُ العليا الإنسانية، وإن لم تكن هواجسُهم فردية.
الشكل الكوني: للانسان الكامل
يمكن القول إن الشكل الكوني يدين للشيخ الأكبر ابن عربي بنشأته وتبلوره، حيث ارتفع ابن عربي بإنسانه الكامل من المستوى الاجتماعي والفردي إلى المستوى الكوني، وكأنه رأى أن تحديد هذا الإنسان بما هو اجتماعي أو فردي إنما هو تقزيم له، فجعل منه ذا مركزية كونية. وقد أثَّر ابن عربي فيمن جاء بعده من المتصوفة، على هذا الصعيد وعلى أصعدة أخرى، ولعل الجيلاني من أهم القائلين بما قاله ابن عربي فيما يخصُّ الإنسان الكامل.
يقرِّر الشيخ الأكبر أن العالم خُلِق من أجل غاية محدَّدة، وهي الإنسان الكامل. فهو العلَّة النظرية في وجود هذا العالم، وهو الغاية النهائية منه. يقول ابن عربي في ذلك:
لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل كان من العالم أيضًا الإنسان الحيوان المشبه للإنسان الكامل في النشأة الطبيعية. وكانت الحقائق التي جمعها الله في الإنسان متبدِّدة في العالم[35].
فهو المعادل الموضوعي للعالم ماهيةً وتركيبًا، حيث جمع الحقائق كلها في ذاته، فكلُّ ما تفرَّق في هذا العالم اجتمع في الإنسان الكامل. غير أن له أفضليةً على العالم لا تكمن في كونه الغاية النهائية من الخلق فحسب، بل تكمن أيضًا في كونه مختصر الحقِّ. إنه الحقُّ والخلقُ معًا. ومن ذلك جاءت تعبيرات ابن عربي المتعددة والمعبِّرة عن هذا المعنى، من مثل: المختصر الشريف، والكلمة الجامعة، والنسخة الكاملة... إلخ. يقول:
فالعالم مختصر الحقِّ، والإنسان الكامل مختصر العالم والحقِّ. فهو نقاوة المختصر. أعني الإنسان الكامل، وأما الإنسان الحيوان فإنه مختصر العالم[36].
وإذا كان العالم قد وُجد بالإنسان الكامل، فإن الحقَّ قد عُرِفَ به أيضًا. فلولاه لما عُرِف الله. إذ إن المعرفة بالله تقتضي إمكانية روحانية متميزة لا يستطيعها إلا الإنسان الكامل:
فإن الله لمَّا أحبَّ أن يُعْرَف لم يكن أن يعرفه إلا من هو على صورته. وما أوجد الله على صورته أحدًا إلا الإنسان الكامل[37].
وهو ما يجعله ذا مركزية كونية تميِّزه من سواه. فهو ظلُّ الله ونائبه حيث:
يكون الحقُّ لسانَه وجميعَ قواه[38].
ولهذا لا غرابة في أن يكون علَّة بقاء العالم واستمراريته، فضلاً عن أنه علَّة وجوده النظرية وغايته النهائية.
اعلم أن الإنسان الكامل عُمُد السماء الذي يُمْسك الله به وجودَ السماء أن تقع على الأرض، فإذا زال الإنسان الكامل وانتقل إلى البرزخ هَوَت السماء[39].
ويمتاز الإنسان الكامل أيضًا بصفته الوحدانية، حيث إن كل شيء في العالم مؤلَّف من زوجين إلا هو. فلا حاجة به إلى غيره. لأنه يقوم مقام الجماعة[40]، على حين أن الجماعة، بل الكون كله، لا يقوم إلا به. وينبغي الإشارة في هذا المجال، إلى أن ابن عربي لا يخصِّص الكمال الإنساني المطلق بالرجل دون المرأة، بل المرأة، عنده، يمكنها أن تصل إلى هذه الرتبة، شأنها شأن الرجل:
كلُّ ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء، كما كان لمن شاء الله من الرجال[41].
ومثل هذا الطرح لا نلحظه إلا عند الشيخ الأكبر.
وبذلك، فإن ابن عربي قد نظر إلى الإنسان الكامل من ثلاث وجهات، وهي: جهة الكيان الوجودي، حيث إنه الجانب الإلهي من الإنسان، أو الجانب الإنساني من الله؛ وتكمن الجهة الثانية في كونه الصلة بين الله والعالم؛ أما الثالثة فتكمن في النظر إليه من جهة المعرفة، حيث يدرك الإنسان الكامل إنسانيته الجامعة للصفات الإلهية، وللصفات الكلية للعالم، ويدرك كون هذه الإنسانية هي مركز العالم وأصلُ الوجود والعالم الصغير الذي يلخِّص مُمكنات العالم الأكبر[42].
إن الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الأسطوري، أو بتعبير ابن عربي بين الإنسان الحيواني والإنسان الكامل، ليس فرقًا في النوعية، بل هو فرق في كمية الكمالات التي ينالها كل منهما. فعلى حين يصل الثاني إلى نَيْل الكمال الإنساني المطلق مشتملاً على الكمالات الأخرى كافة، يتراوح الأول بين الكمال المادي والكمال المعنوي، أي ينحصر في حدود الكمال المقيَّد. غير أن إمكانية بلوغ الكمال المطلق قائمةٌ في الإنسان الحيوان. مما يعني أن ابن عربي يفترض أن كل إنسان يمكنه أن يكون كاملاً، من حيث الإمكانية، وإن يكن قد رأى أن الذين قد بلغوا هذه الرتبة بالفعل هم الأنبياء وأقطاب الصوفية، وأهمهم على الإطلاق النبي الكريم محمد، فهو الإنسان الكامل الذي لا أكمل منه[43].
إن هذا الطرح نفسه نلحظه عند الجيلاني الذي يصرِّح بأن
مطلق لفظ الإنسان الكامل حيث وقَعَ في مؤلفاتي إنما أريد به سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم تأدُّبًا لمقامه الأعلى ومحلِّه الأكمل الأسنى[44].
غير أن ذلك لا يؤدي إلى أن الجيلاني ينفي إمكانية الكمال الإنساني المطلق عن البشر، بل إنه يقرر هذه الإمكانية، وذلك في قوله في النوع الإنساني:
إن أفراد هذا النوع الإنساني كل واحد منهم نسخةٌ للآخر بكماله لا يُفقد في أحد منهم مما في الآخر شيء إلا بحسب العارض... ومتى لم يحصل العارض فَهُم كمرآتين متقابلتين يوجد في كل واحدة منهما ما يوجد في الأخرى. ولكن منهم من تكون الأشياء فيه بالقوة، ومنهم تكون فيه بالفعل وهم الكُمَّل من الأنبياء والأولياء. ثم إنهم متفاوتون في الكمال. فمنهم الكامل والأكمل[45].
ولا نكاد نجد اختلافًا بين الجيلاني وابن عربي، إلا في الإسهاب والشرح، ولهذا نرى بنا حاجةً إلى استعراض ما طرحه الجيلاني. غير أن هذا لا يمنع من عرض بعض ما قاله، في ذلك، كيما يتوضَّح الشكل الكوني للإنسان الكامل أكثر فأكثر.
لقد سلف القول بأن ابن عربي يرى أن هذا الإنسان هو مختصر الحق والخلق، أو الله والعالم. وهو ما يفصِّل فيه الجيلاني مقررًا
أن الإنسان الكامل مقابلٌ لجميع الحقائق الوجودية بنفسه. فيقابل الحقائق العلوية بلطافته ويقابل الحقائق السفلية بكثافته[46].
ثم يفصِّل القول، في هذه المقابلات، فيكون العرش مقابلاً بقلب الإنسان الكامل، والكرسي بأنيَّته، وسدرة المنتهى بمقامه، والقلم الأعلى بعقله، واللوحُ المحفوظ بنفسه، والعناصر الأربعة بطبعه، والهيولى بقابليته، والهباء بحيِّز هيكله... وهكذا حتى يستنفد الموجودات كافة، بما فيها الجن والشياطين والثعالب والأسود والفئران والبحار والرياح... إلخ[47].
وبما أنه كذلك فلا غرابة في أن يكون هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الموجود من أوَّله إلى آخره، وهو واحدٌ منذ كان الوجودُ إلى أبد الآبدين. ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس فيسمى باعتبار لباس ولا يسمى له باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد[48].
فالحقيقة المحمدية واحدة ومتعددة في آن معًا. إنها واحدة من حيث المعنى، ومتعددة من حيث الأشكال والأسماء. وما الحقيقة المحمدية، عند الجيلاني، سوى الجوهر في إنسانه الكامل.
ويرى الجيلاني أن لإنسانه الكامل ثلاثة برازخ ومقامًا. أما البرزخ الأول فهو برزخ التحقق بالأسماء والصفات الإلهية، أي المعرفة المطلقة بالله. والبرزخ الثاني هو برزخ الرقائق الإنسانية بالحقائق الرحمانية، أي الاطلاع على سائر المغيبات. والثالث هو برزخ التنوعات الحكمية في اختراع الأمور القدرية، وبه يتمكن الإنسان من خرق نواميس الطبيعة، فيأتي بالخوارق. وهذا البرزخ يؤدي بالضرورة إلى المقام المسمى بالختام والموصوف بالجلال والإكرام، وليس بعد ذلك إلا الكبرياء، وهي النهاية التي لا تدرك لها غاية[49]. وبذلك يكون قد بلغ أقصى ما يمكن أن يبلغه كائن. وهو ما قاله ابن عربي، والصدر القونوي[50]، وما سوف يقوله ابن قضيب البان المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري، وذلك إذ يقول:
أوقفني الحق على بساط القطبية وقال لي: الإنسان الكامل قطب الشأن الإلهي، وغَوْثُ الآنِ الزماني. أوَّلُ ما أُسلم له: التصريف في قطر نفسه حتى يبلغ الأشد، ثم أُسلم له الأرض، ثم يُسلَّم له المُلك، ثم يُجمع له الملك والملكوت. وهذا هو النائب الرحماني[51].
وغني عن البيان أن هذا الشكل الكوني لا يخلو من موقف أيديولوجي من الواقع الاجتماعي، حيث تم الاستعلاء على ما يعانيه الواقع من تفرقة واضمحلال ولامركزية وبطش وفساد. فالإنسان الكامل هو الكلمة الجامعة في زمن التفرقة، وهو الرحيم في زمن البطش[52]، وهو المدينة الفاضلة[53] في زمن الفساد، وهو القطب في زمن الاضمحلال والتشتت واللامركزية السياسية.
وعلى الرغم من أن هذا الموقف موقف انسحابي من الواقع، إلا أن فيه ملمحًا ثوريًا يرفض الواقع السلبي متجاوزًا إياه بنقيضه: الفاضل الأسطوري. وهو، وإن يكن أقل ثورية واجتماعية وأكثر أسطورية وطوباوية مما طرحه الفارابي، يبقى موقفًا له قيمته الأيديولوجية–الثورية.
تلك هي الأشكال الثلاثة التي تمظهر بها الإنسان الكامل في الفكر العربي–الإسلامي، وهي أشكال متعاقبة تاريخيًا – على الصعيد النظري – على النحو الذي عرضناها فيه، كما أنها متزامنة من حيث السيرورة التاريخية مع تفاوت في الشيوع والهيمنة لهذا الشكل أو ذاك!
ونصل إلى تحديد السمات العامة المشتركة لهذه الأشكال، بعد أن تعرَّفنا، بإيجاز، إلى خصوصية كل منها. وذلك كيما نفيد منها في التحديد الجمالي للإنسان الكامل، في هذا الفكر. مع الإشارة إلى أن هذه السمات هي المحددة للكمال الإنساني المطلق.
الشكل الفردي: للانسان الكامل
بالنسبة إلى الشكل الفردي للإنسان الكامل فيمكن التوكيد أن الحلاج من أوائل الذين تمثلوا عمليًا هذا الشكل، فكانت حياتهم ممارسة فعلية له. وفي أخباره وأشعاره ما يؤكد أن الرجل كان يهدف إلى التجرد مما هو مادي وشهوي، وأنه كان يحاول العيش بمخيلته – بحسب المصطلح الإسلامي – ولهذا فقد كان قتله خلاصًا فرديًا له من عالم الظلمة والعدم، وكأن خصومه قد أسدوا إليه خدمة جليلة حين صلبوه. والحق إن الحلاج واحد من أطراف المحاولات الصوفية الفردية للعيش في العوالم الروحانية والنورانية، مع ابتذال كل ما هو جسماني وظلماني. يقول:
الفراش يطير حول المصباح. ويعود إلى الأشكال، فيخبرهم عن الحال بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال طمعًا في الوصول إلى الكمال[20].
ويقول أيضًا:
خاطَبَني الحقُّ من جناني فكـان علمي على لساني
قرَّبني منه بَـعْد بُــعْدٍ وخصَّني الله واصطفاني[21]
وعلى الرغم من أهمية الحلاج، بالنسبة إلى هذا الشكل، غير أن المنظِّر الفلسفي له هو الشيخ الرئيس ابن سينا الذي كان اهتمامه الفلسفي مُنصبًّا على معالجة النفس وكيفية خلاصها من أسر المادة، وما تفرضه من شهوات حسية زائلة.
إن السعيد الحقيقي، عند ابن سينا، هو من استطاع الاستعلاء على بدنيَّته، وجاور الروحانيات متَّصلاً بها بنفسه الناطقة أو عقله المستفاد. يقول في ذلك:
السعداء الحقيقيون يتلذَّذون بالمجاورة، ويَعْقِل كلُّ واحد منهم ذاتَه وذَوَات ما يتَّصل به، ويكون اتصالُ بعضها ببعض لا على سبيل اتصال الأجسام... ولكن على سبيل اتصال معقول بمعقول[22].
ويخصِّص ابن سينا اسم الإنسانية بأولئك السعداء أو الناس الكُمَّل، أما الناس الذين يعجزون عن الاستعلاء على أبدانهم، ولا تُسعفهم قواهم في السعي إلى المعقولات المفارقة أو الروحانيات، فلا يصحُّ أن يُطلق عليهم اسم الإنسانية الذي يقترن، عند ابن سينا، ببلوغ الكمال الإنساني المطلق الذي هو السعادة الحقيقية. يقول:
الناس المستحقون لاسم الإنسانية هم الذين يبلغون في الآخرة[23] السعادة الحقيقية وهؤلاء على مراتب أيضًا، وأشرفهم وأكملهم الذي يختصُّ بالقوة النبوية. والقوة النبوية لها خواص ثلاثة قد تجتمع في إنسان واحد، وقد لا تجتمع، بل تتفرق[24].
أما هذه الخواص، فالأولى منها هي قوة الحدس التي تعود إلى الاتصال بالعقل الفعَّال. وهذا الاتصال
وإن كان أقليًا نادرًا فهو ممكن غير ممتنع[25].
وتتعلق الخاصة الثانية:
بالخيال الذي للإنسان الكامل المزاج. وفِعْلُ هذه الخاصَّة هو الإنذار بالكائنات والدلالة على المغيَّبات[26].
ويكمن السبب في معرفة ذلك في اتصال النفس الإنسانية بنفوس الأجرام السماوية. أما الخاصة الثالثة فهي تغيير الطبيعة[27]، حيث يتمكَّن النبي أو الإنسان الكامل عامة، بما يمتلك من قوى نفسية، من أن يؤثِّر في الطبيعة، فيغيِّر مجراها، ويُحدث فيها أمورًا خطيرة كالصواعق والعواصف والزلازل والبراكين... إلخ. وينطلق ابن سينا، في هذه الخاصة، من أن
من شأن الأنفس أن تحدث منها في أبدانها حرارةٌ قوية بالفرح تكون سببًا لدفع كثير من الآلام، وبرودةٌ قوية بالغم والخوف تكون سببًا للأمراض بل للهلاك[28].
وبما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى علاقة النفس بالبدن، فلم لا تكون تلك هي الحال بالنسبة إلى علاقة الأنفس الكاملة بالطبيعة. هذه الأنفس التي تمتلك قوى تتجاوز أبدانها!
وغنيٌّ عن البيان أن هذه الخواص لا تحدث إلا بعد الاستعلاء على البدن والماديات كافة. ففي ذلك يكمن الكمال وتكمن السعادة
فسعادة النفس في كمال ذاتها من الجهة التي تخصُّها هو صيرورتها عالمًا عقليًا، وسعادتها من جهة العلاقة التي بينها وبين البدن أن يكون لها الهيئة الاستعلائية[29].
إن ابن سينا لا يعلِّق آمالاً اجتماعية على إنسانه الكامل، بل إن هذا الإنسان لا يهدف إلا إلى سعادته ولذَّته هو. فكمالُه الإنساني المطلق هو خلاص فردي له من ظُلْمة هذا العالم المادي. سواء أكان ذلك على صعيد الطبيعة أم على صعيد المجتمع. فهو لا يسخِّر قواه الإعجازية من أجل الآخرين. فالآخرون لا يستحقون اسم الإنسانية أصلاً. وعلى الرغم من أن الخلاص الفردي هو الأساس في هذا الإنسان، إلا أن ذلك لا يعني انتفاء الجانب الاجتماعي عنه. فلا بد من الاحتياز على الكمالات الإنسانية كافة، التي هي دون هذا الكمال الروحاني. أي لا بد له من الاتصاف بالفضائل الأخلاقية. بل إنه يتصف بها في أعلى درجاتها. فإذا كان هدفه فرديًا خلاصيًا، فإن هذا لا يعني إهماله لما هو اجتماعي–أخلاقي. فلقد تمَّ تنزيه السعداء أو الناس الكُمَّل من كلِّ ما يشين على الصعيد الأخلاقي. إنهم المُثُلُ العليا الإنسانية، وإن لم تكن هواجسُهم فردية.
الشكل الكوني: للانسان الكامل
يمكن القول إن الشكل الكوني يدين للشيخ الأكبر ابن عربي بنشأته وتبلوره، حيث ارتفع ابن عربي بإنسانه الكامل من المستوى الاجتماعي والفردي إلى المستوى الكوني، وكأنه رأى أن تحديد هذا الإنسان بما هو اجتماعي أو فردي إنما هو تقزيم له، فجعل منه ذا مركزية كونية. وقد أثَّر ابن عربي فيمن جاء بعده من المتصوفة، على هذا الصعيد وعلى أصعدة أخرى، ولعل الجيلاني من أهم القائلين بما قاله ابن عربي فيما يخصُّ الإنسان الكامل.
يقرِّر الشيخ الأكبر أن العالم خُلِق من أجل غاية محدَّدة، وهي الإنسان الكامل. فهو العلَّة النظرية في وجود هذا العالم، وهو الغاية النهائية منه. يقول ابن عربي في ذلك:
لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل كان من العالم أيضًا الإنسان الحيوان المشبه للإنسان الكامل في النشأة الطبيعية. وكانت الحقائق التي جمعها الله في الإنسان متبدِّدة في العالم[35].
فهو المعادل الموضوعي للعالم ماهيةً وتركيبًا، حيث جمع الحقائق كلها في ذاته، فكلُّ ما تفرَّق في هذا العالم اجتمع في الإنسان الكامل. غير أن له أفضليةً على العالم لا تكمن في كونه الغاية النهائية من الخلق فحسب، بل تكمن أيضًا في كونه مختصر الحقِّ. إنه الحقُّ والخلقُ معًا. ومن ذلك جاءت تعبيرات ابن عربي المتعددة والمعبِّرة عن هذا المعنى، من مثل: المختصر الشريف، والكلمة الجامعة، والنسخة الكاملة... إلخ. يقول:
فالعالم مختصر الحقِّ، والإنسان الكامل مختصر العالم والحقِّ. فهو نقاوة المختصر. أعني الإنسان الكامل، وأما الإنسان الحيوان فإنه مختصر العالم[36].
وإذا كان العالم قد وُجد بالإنسان الكامل، فإن الحقَّ قد عُرِفَ به أيضًا. فلولاه لما عُرِف الله. إذ إن المعرفة بالله تقتضي إمكانية روحانية متميزة لا يستطيعها إلا الإنسان الكامل:
فإن الله لمَّا أحبَّ أن يُعْرَف لم يكن أن يعرفه إلا من هو على صورته. وما أوجد الله على صورته أحدًا إلا الإنسان الكامل[37].
وهو ما يجعله ذا مركزية كونية تميِّزه من سواه. فهو ظلُّ الله ونائبه حيث:
يكون الحقُّ لسانَه وجميعَ قواه[38].
ولهذا لا غرابة في أن يكون علَّة بقاء العالم واستمراريته، فضلاً عن أنه علَّة وجوده النظرية وغايته النهائية.
اعلم أن الإنسان الكامل عُمُد السماء الذي يُمْسك الله به وجودَ السماء أن تقع على الأرض، فإذا زال الإنسان الكامل وانتقل إلى البرزخ هَوَت السماء[39].
ويمتاز الإنسان الكامل أيضًا بصفته الوحدانية، حيث إن كل شيء في العالم مؤلَّف من زوجين إلا هو. فلا حاجة به إلى غيره. لأنه يقوم مقام الجماعة[40]، على حين أن الجماعة، بل الكون كله، لا يقوم إلا به. وينبغي الإشارة في هذا المجال، إلى أن ابن عربي لا يخصِّص الكمال الإنساني المطلق بالرجل دون المرأة، بل المرأة، عنده، يمكنها أن تصل إلى هذه الرتبة، شأنها شأن الرجل:
كلُّ ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء، كما كان لمن شاء الله من الرجال[41].
ومثل هذا الطرح لا نلحظه إلا عند الشيخ الأكبر.
وبذلك، فإن ابن عربي قد نظر إلى الإنسان الكامل من ثلاث وجهات، وهي: جهة الكيان الوجودي، حيث إنه الجانب الإلهي من الإنسان، أو الجانب الإنساني من الله؛ وتكمن الجهة الثانية في كونه الصلة بين الله والعالم؛ أما الثالثة فتكمن في النظر إليه من جهة المعرفة، حيث يدرك الإنسان الكامل إنسانيته الجامعة للصفات الإلهية، وللصفات الكلية للعالم، ويدرك كون هذه الإنسانية هي مركز العالم وأصلُ الوجود والعالم الصغير الذي يلخِّص مُمكنات العالم الأكبر[42].
إن الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الأسطوري، أو بتعبير ابن عربي بين الإنسان الحيواني والإنسان الكامل، ليس فرقًا في النوعية، بل هو فرق في كمية الكمالات التي ينالها كل منهما. فعلى حين يصل الثاني إلى نَيْل الكمال الإنساني المطلق مشتملاً على الكمالات الأخرى كافة، يتراوح الأول بين الكمال المادي والكمال المعنوي، أي ينحصر في حدود الكمال المقيَّد. غير أن إمكانية بلوغ الكمال المطلق قائمةٌ في الإنسان الحيوان. مما يعني أن ابن عربي يفترض أن كل إنسان يمكنه أن يكون كاملاً، من حيث الإمكانية، وإن يكن قد رأى أن الذين قد بلغوا هذه الرتبة بالفعل هم الأنبياء وأقطاب الصوفية، وأهمهم على الإطلاق النبي الكريم محمد، فهو الإنسان الكامل الذي لا أكمل منه[43].
إن هذا الطرح نفسه نلحظه عند الجيلاني الذي يصرِّح بأن
مطلق لفظ الإنسان الكامل حيث وقَعَ في مؤلفاتي إنما أريد به سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم تأدُّبًا لمقامه الأعلى ومحلِّه الأكمل الأسنى[44].
غير أن ذلك لا يؤدي إلى أن الجيلاني ينفي إمكانية الكمال الإنساني المطلق عن البشر، بل إنه يقرر هذه الإمكانية، وذلك في قوله في النوع الإنساني:
إن أفراد هذا النوع الإنساني كل واحد منهم نسخةٌ للآخر بكماله لا يُفقد في أحد منهم مما في الآخر شيء إلا بحسب العارض... ومتى لم يحصل العارض فَهُم كمرآتين متقابلتين يوجد في كل واحدة منهما ما يوجد في الأخرى. ولكن منهم من تكون الأشياء فيه بالقوة، ومنهم تكون فيه بالفعل وهم الكُمَّل من الأنبياء والأولياء. ثم إنهم متفاوتون في الكمال. فمنهم الكامل والأكمل[45].
ولا نكاد نجد اختلافًا بين الجيلاني وابن عربي، إلا في الإسهاب والشرح، ولهذا نرى بنا حاجةً إلى استعراض ما طرحه الجيلاني. غير أن هذا لا يمنع من عرض بعض ما قاله، في ذلك، كيما يتوضَّح الشكل الكوني للإنسان الكامل أكثر فأكثر.
لقد سلف القول بأن ابن عربي يرى أن هذا الإنسان هو مختصر الحق والخلق، أو الله والعالم. وهو ما يفصِّل فيه الجيلاني مقررًا
أن الإنسان الكامل مقابلٌ لجميع الحقائق الوجودية بنفسه. فيقابل الحقائق العلوية بلطافته ويقابل الحقائق السفلية بكثافته[46].
ثم يفصِّل القول، في هذه المقابلات، فيكون العرش مقابلاً بقلب الإنسان الكامل، والكرسي بأنيَّته، وسدرة المنتهى بمقامه، والقلم الأعلى بعقله، واللوحُ المحفوظ بنفسه، والعناصر الأربعة بطبعه، والهيولى بقابليته، والهباء بحيِّز هيكله... وهكذا حتى يستنفد الموجودات كافة، بما فيها الجن والشياطين والثعالب والأسود والفئران والبحار والرياح... إلخ[47].
وبما أنه كذلك فلا غرابة في أن يكون هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الموجود من أوَّله إلى آخره، وهو واحدٌ منذ كان الوجودُ إلى أبد الآبدين. ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس فيسمى باعتبار لباس ولا يسمى له باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد[48].
فالحقيقة المحمدية واحدة ومتعددة في آن معًا. إنها واحدة من حيث المعنى، ومتعددة من حيث الأشكال والأسماء. وما الحقيقة المحمدية، عند الجيلاني، سوى الجوهر في إنسانه الكامل.
ويرى الجيلاني أن لإنسانه الكامل ثلاثة برازخ ومقامًا. أما البرزخ الأول فهو برزخ التحقق بالأسماء والصفات الإلهية، أي المعرفة المطلقة بالله. والبرزخ الثاني هو برزخ الرقائق الإنسانية بالحقائق الرحمانية، أي الاطلاع على سائر المغيبات. والثالث هو برزخ التنوعات الحكمية في اختراع الأمور القدرية، وبه يتمكن الإنسان من خرق نواميس الطبيعة، فيأتي بالخوارق. وهذا البرزخ يؤدي بالضرورة إلى المقام المسمى بالختام والموصوف بالجلال والإكرام، وليس بعد ذلك إلا الكبرياء، وهي النهاية التي لا تدرك لها غاية[49]. وبذلك يكون قد بلغ أقصى ما يمكن أن يبلغه كائن. وهو ما قاله ابن عربي، والصدر القونوي[50]، وما سوف يقوله ابن قضيب البان المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري، وذلك إذ يقول:
أوقفني الحق على بساط القطبية وقال لي: الإنسان الكامل قطب الشأن الإلهي، وغَوْثُ الآنِ الزماني. أوَّلُ ما أُسلم له: التصريف في قطر نفسه حتى يبلغ الأشد، ثم أُسلم له الأرض، ثم يُسلَّم له المُلك، ثم يُجمع له الملك والملكوت. وهذا هو النائب الرحماني[51].
وغني عن البيان أن هذا الشكل الكوني لا يخلو من موقف أيديولوجي من الواقع الاجتماعي، حيث تم الاستعلاء على ما يعانيه الواقع من تفرقة واضمحلال ولامركزية وبطش وفساد. فالإنسان الكامل هو الكلمة الجامعة في زمن التفرقة، وهو الرحيم في زمن البطش[52]، وهو المدينة الفاضلة[53] في زمن الفساد، وهو القطب في زمن الاضمحلال والتشتت واللامركزية السياسية.
وعلى الرغم من أن هذا الموقف موقف انسحابي من الواقع، إلا أن فيه ملمحًا ثوريًا يرفض الواقع السلبي متجاوزًا إياه بنقيضه: الفاضل الأسطوري. وهو، وإن يكن أقل ثورية واجتماعية وأكثر أسطورية وطوباوية مما طرحه الفارابي، يبقى موقفًا له قيمته الأيديولوجية–الثورية.
تلك هي الأشكال الثلاثة التي تمظهر بها الإنسان الكامل في الفكر العربي–الإسلامي، وهي أشكال متعاقبة تاريخيًا – على الصعيد النظري – على النحو الذي عرضناها فيه، كما أنها متزامنة من حيث السيرورة التاريخية مع تفاوت في الشيوع والهيمنة لهذا الشكل أو ذاك!
ونصل إلى تحديد السمات العامة المشتركة لهذه الأشكال، بعد أن تعرَّفنا، بإيجاز، إلى خصوصية كل منها. وذلك كيما نفيد منها في التحديد الجمالي للإنسان الكامل، في هذا الفكر. مع الإشارة إلى أن هذه السمات هي المحددة للكمال الإنساني المطلق.