- المشاركات
- 308
- مستوى التفاعل
- 1,174
يمهِّد أفلاطون للحديث عن رمز الكهف في نهاية الباب السادس من جمهوريته، لكن الحديث نفسه يبدأ مع بداية الباب السابع.
إن سقراط — الذي يُجْرِي أفلاطون على لسانه كل فلسفته — يتحدث إلى جلاوكون.
الأوَّل يصوَّر الحكاية ويصف الكهف، والثاني يعلن عن دهشته التي تستيقظ في نفسه شيئًا فشيئًا،
لنسمع الحديث معًا قبل أن نبدأ في الكلام عنه:
سقراط : والآن، قارن طبيعتنا من وجهة نظر التربية ونقص التربية، بمثل هذه التجربة ..
تخيل أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيَّدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم، حيث يظلون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا أن ينظروا إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم — بسبب هذه القيود والسلاسل — عاجزون عن إدارة الرءوس فيما حولهم، في استطاعتهم مع ذلك أن يبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نارٍ تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيَّدين بالسلاسل [أعني في ظهورهم] يمتد في الجهة العلوية طريق بُنِيَ على طوله — تصوَّرْ هذا — حائط منخفض شبيه بالأسوار التي يقيمها المهرجون [لاعبوا الدمى المتحركة] أمام الناس، لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
جلاوكون : هذا ما أراه.
سقراط : تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الحائط الصغير حاملين مختلف الأشياء؛ من تماثيل وصورٍ حجرية وخشبية، وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظَر، ويصمت البعض الآخر.
جلاوكون : صورةٌ غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوعٍ غريب.
سقراط : إنهم يشبهوننا، نحن البشر، ماذا تحبُّ أن يكون عليه الأمر؟ مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية — سواء كان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم — إلا على الظلال التي تلقيها النار على حائط الكهف المواجه لهم.
جلاوكون : وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أُجْبِروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم؟
سقراط : ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس [خلف ظهورهم]؟ ألا يرون هذه [الظلال] نفسها؟
جلاوكون : كذلك الأمر في الواقع.
سقراط : لو أنه كان في مقدورهم أن يتحدثوا بعضهم مع البعض عما يرون، ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟
جلاوكون : بالضرورة.
سقراط : ماذا يكون الأمر إذًا لو أن هذا السجن كان يتردَّد فيه صدًى من الحائط المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرُّون وراء المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمرُّ أمامهم؟
جلاوكون : لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
سقراط : إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا سوى ظلال الأدوات [التي يحملها العابرون].
جلاوكون : بالطبع هذا أمر ضروري.
سقراط : تتبع إذن بنظرتك، كيف يفكُّ هؤلاء المسجونون قيودهم ويُشفَوْن في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتفكَّرْ عندئذٍ،
كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي: كلما فُكَّت السلاسل عن أحدهم وأُجْبِرَ على الوقوف على قدمَيه فجأة والالتفات برقبته والسير قُدُمًا والتطلُّع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألمًا شديدًا، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبلُ.
[لو أن ذلك كله حدث له] فماذا تحسبه يقول لو أن أحدًا قال له إن ما رآه من قبلُ لم يكن إلا عدمًا، وأنه الآن أقرب إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابًا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودًا؟ ولو أن أحدًا عرض عليه الأشياء التي مرَّت عليه واحدًا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيَحتار كيف يردُّ عليه وأنه سيَعتبر أن ما رآه بعينه من قبلُ أكثر حقيقةً مما يُعرَض عليه الآن؟
جلاوكون : بالطبع.
سقراط : وإذا أجبره أحد على النظر إلى النور [المنبعِث من النار]، ألن تؤلمه عيناه ويتمنَّى أن يحوِّلهما عنه ويفرَّ إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يُعْرَض الآن عليه؟
جلاوكون : الأمر كذلك.
سقراط : وإذا حدث أن أحدًا جذبه بالقوة من هناك وشدَّه على الطريق الوعر [إلى خارج الكهف]، ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؟ ألن يحس — وقد وقف في نور الشمس — بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئًا مما يُقال له الآن إنه الحق؟
جلاوكون : لن يقوى أبدًا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل.
سقراط : أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعوُّد إذا كان عليه أن يرى ما هناك [أي خارج الكهف في ضوء الشمس]، إنه سيستطيع في أول الأمر [نتيجة لهذا التعود] أن ينظر في يُسرٍ شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكن أخيرًا من رؤية هذه الأشياء نفسها [أي الموجودات الحقيقية بدلًا عن انعكاساتها]، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما [يتجلَّى] منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى نور النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟
جلاوكون : لا شك في ذلك.
سقراط : أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، [وسيتمكن من النظر] إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها؛ لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها.
جلاوكون : من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.
سقراط : وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يُجمِل القول عنها [أي عن الشمس] فيعرف أنها هي التي تضمن [تعاقُب] فصول السنة كما تضمن [مرَّ] السنين، وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها [أي الشمس] هي عِلَّة كل ما يجده أولئك [المقيمون في الكهف] على نحو من الأنحاء حاضرًا أمامهم.
جلاوكون : واضح أنه سيصل إلى هذا [أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها] بعد أن تجاوز ذاك [أي ما كان ظلًّا وانعكاسًا فحسب].
سقراط : ماذا يحدث إذن لو أنه تذكَّر مسكنه الأوَّل، وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟
جلاوكون : أسفاً شديداً !
سقراط : فإذا حددت في المكان القديم [بين من كانوا يقيمون في الكهف] جوائز وألوانًا معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤيةً حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة، ثم ما يتبعها أو ما يتفق مروره معها في وقتٍ واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره،
أتعتقد أنه [أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة] سيحسُّ بالشوق إليهم [أي إلى الذين لا يزالون في الكهف] لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة؟
أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجلٍ غريبٍ فقير» [أي أنه سيُفضِّل — مثل أخيل — أن يعمل كأجيرٍ حقير في عالم العقل العلوي، على أن يكون مَلكًا في عالم الأشباح] وسيحتمل كل ما يمكن احتماله بدلًا من أن يعتنق تلك الآراء [التي يؤمنون بها في الكهف] ويعيش على هذا النحو.
جلاوكون : أعتقد أنه سيؤثِر أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة [التي يعيشونها في الكهف].
سقراط : والآن تَفكَّرْ في هذا، إذا حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط مرة أخرى إلى الكهف وجلس في نفس المكان [الذي كان يجلس فيه]، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
جلاوكون : طبيعي جِدًّا أن يحدث له ذلك.
سقراط : فإذا عاد إلى الجدال مع المقيَّدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان [من الضوء] قبل أن تعودا سيرتهما الأولى — الأمر الذي سيستغرق منه زمنًا غير قليل حتى يتعوَّد عليه — [ألا تعتقد] أنه سيُعرِّض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون أن يقنعوه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينَين مريضتَين، وأن الأمر لا يستحق أبدًا أن يشقَّ الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمدَّ يديه ليفكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، [ألا تعتقد] أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقًّا؟
جلاوكون : يقينًا سيفعلون ذلك .
قصة مصوٌرة للنظرية :
للموضوع تكملة ...