هناك عدد محدود للقراءات المسموح بها للزوار

[2] هو عدد القراءات المتبقية

من رسائل أخوان الصفا وخلان الوفا

ابو الحسن

طالب الحكمة
المشاركات
64
مستوى التفاعل
94
( فصل بناء أمرهم على التهاون بأمر الأجساد )

التأسي بالسيد المسيح في ذلك ومما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد, فعل السيد المسيح , عليه السلام بناسوته ووصيته للحواريين بمثل ذلك.

ذلك أن المسيح لما بعث في بني إسرائيل فرآهم منتحلين دين موسى مستمسكين بظاهر شريعته يقرأون التوراة وكتب الأنبياء غير قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها فلا يعرفون أسرارها بل يستعملونها على العادة ويجرونها على التقليد ولا يعرفون الآخرة ولا يرغبون فيها ولا يفهمون أمر المعاد ولا يدرون ما فيها غير الدنيا وغرورها وأمانيها ولا يدرون مما يستعملون من أمر الشريعة وسنة الدين إلا طلب الدنيا وليس غرض الأنبياء في دعوتهم الأمم ووضع الشرائع والسنن إصلاح الدنيا فحسب بل غرضهم من ذلك كله نجاة النفوس الغريقة من بحر الهيولى والعتق لها من أسر الطبيعة وإخراجها من ظلمات الأجسام إلى أنوار عالم الأرواح والتنبيه لها من نوم الجهالة والتيقظ لها من رقدة الغفلة وتخليصها من ألم نيران الشهوات الجسمانية المحرقة للأفئدة والتبصير لها من الغرور بالذات الجرمانية المهولة وشفاؤها من الأمراض النفسانية ومن عذاب الحر والبرد والجوع والعطش وألم الأمراض والأسقام وخوف الفقر والتلف والأحزان والأسف وأحداث الزمان وغيظ الأعداء والغم على الأصدقاء وحرقة الإشفاق على الأحباء والأقرباء ومعادة الأضداد ومكايدة الأقران وحسد الجيران ووساوس الشيطان ونوائب الحدثان حالً بعد حال.



فلما رآهم المسيح على تلك الحالة لا فرق بينهم وبين من لا يقر بالمعاد ولا يعرف الدين والنبوة ولا الكتاب ولا السنة ولا المنهاج ولا الشريعة ولا الزهد في الدنيا ولا الرغبة في الآخرة غمه ذلك منهم ورق لهم وحنن على أبناء جنسه وتفكر في أمرهم كيف يداويهم من دائهم الذي استقر بهم وعلم أنه إن وبخهم بالتعنيف والوعيد والزجر والتهديد لا ينفعهم ذلك لأن هذه كلها موجودة في التوراة وما في أيديهم من كتب الأنبياء عليهم السلام فرأى أن يظهر لهم بزي الطبيب المداوي وجعل يطوف في محال بني إسرائيل يلقى واحداً يعظه ويذكره ويضرب له الأمثال وينبهه من الجهالة ويزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة ونعيمها حتى مر بقوم من القصارين خارج المدينة فوقف عليهم فقال لهم: أرأيتم هذه الثياب إذا غسلتموها ونظفتموها وبيضتموها هل تجوزون أن يلبسها أصحابها وأجسادهم ملوثة بالدم والبول والغائط ولون القاذورات؟ قالوا: لا ومن فعل ذلك كان سفيها, قال: فعلتموها أنتم, قالوا: كيف؟ قال: لأنكم نظفتم أجسادكم وبيضتم ثيابكم ولبستموها ونفوسكم ملوثة بالجيف مملوءة قاذورات من الجهالة والعماء والبكم وسوء الأخلاق والحسد والبغضاء والمكر والغش والحرص والبخل والقبح وسوء الظن وطلب الشهوات الرديئة وأنتم في ذل العبودية أشقياء لا راحة لكم إلا الموت والقبر فقالوا: كيف نعمل هل لنا بد من طلب المعاش ؟ قال: فهل لكم أن ترغبوا في ملكوت السماء حيث لا موت ولا هرم ولا وجع ولا سقم ولا جوع ولا عطش ولا خوف ولا حزن ولا فقر ولا حاجة ولا تعب ولا عناء ولا غم ولا حسد بين أهلها ولا بغض ولا تفاخر ولا خيلاء بل إخوان على سرر متقابلين فرحين مسرورين في روح الريحان ونعمه ورضوان وبهجة ونزهة ويسيحون في فضاء الأفلاك وسعة السموات ويشاهدون ملكوت رب العالمين ويرون الملائكة حول عرشه صافين يسبحون بحمد ربهم بنغمات وألحان لم يسمع بمثلها إنس ولا جان وتكونون أنتم معهم خالدون لا تهرمون ولا تموتون ولا تجوعون ولا تعطشون ولا تمرضون ولا تخافون ولا تحزنون, واكثر النصح فيهم , وعمل كلامه في نفوسهم وأراد الله عز وجل بهم خيرا فأسمعهم وهداهم وشرح صدورهم وفتح قلوبهم ونور أبصارهم فشاهدوا ما وصف المسيح عليه السلام مما يشاهده هو بعين البصيرة ونور اليقين وصدق الإيمان فرغبوا فيها وزهدوا في الدنيا وغرورها وأمانيها وخرجوا مما كانوا فيه من عبودية طلب شهوات الدنيا ولبسوا المرقعات وساحوا مع المسيح حيث مر من البلاد.



وكان من سنة المسيح التنقل كل يوم من قرية إلى قرية من قرى فلسطين ومن مدينة إلى مدينة من ديار بني إسرائيل يداوي الناس ويعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ملكوت السماء ويرغبهم فيها ويزهدهم في الدنيا ويبين لهم غرورها وأمانيها وهو مطلوب من ملك بني إسرائيل وغوغائهم وبينما هو في محفل من الناس هُجم عليه ليؤخذ فتجنب من بين الناس فلا يقدر عليه ولا يعرف له خبر, حتى يسمع بخبره من قرية أخرى فيطلب هناك وذلك دأبه ودأبهم ثلاثين شهراً فلما أراد الله تعالى أن يتوفاه ويرفعه إليه اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة ناسوتي وآخذ عليكم عهداً وميثاقاً فمن قبل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غداً ومن لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء فقالوا له: ماهي؟ قال: اذهبوا إلى ملوك الأطراف وبلغوهم مني ما ألقيت إليكم وادعوهم إلى ما دعوتكم إليه ولا تخافوهم ولا تهابوهم فإني إذا فارقت ناسوتي فإني واقف في الهواء عن يمنة عرش أبي وأبيكم وأنا معكم حيث ما ذهبتم ومؤيدكم بالنصر والتأييد بإذن أبي اذهبوا إليهم وادعوهم بالرفق وداووهم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم تقتلوا أو تصلبوا أو تنفوا من الأرض فقالوا: ما تصديق ما تأمرنا؟ قال: أنا أول من يفعل ذلك وخرج من الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى اُخذ وحُمل إلى ملك بني إسرائيل فأمر بصلبه فصلب ناسوته وسمرت يداه على خشبتي الصليب وبقي مصلوبا من ضحوة النهار إلى العصر وطلب الماء فسقي الخل وطُعن بالحربة ثم دفن مكان الخشبة ووكل بالقبر أربعون نفراً وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه فلما رأوا ذلك منه أيقنوا وعلموا أنه لم يأمرهم بشيء يخالفهم فيه ثم اجتمعوا بعد ذلك بثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أنه يتراءى لهم فيه, فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يقتل فنبش القبر فلم يوجد الناسوت فاختلف الأحزاب من بينهم وكثر القيل والقال وقصته تطول.

ثم إن أولئك الحواريين الذين قبلوا وصيته تفرقوا في البلاد وذهب كل واحد منهم حيث وجه: فواحد ذهب إلى بلاد المغرب وآخر إلى بلاد الحبشة واثنان إلى بلاد رومية واثنان إلى ملك إنطاكية واثنان أقاما في دير بني إسرائيل يدعون إلى رأي المسيح حتى قتل أكثرهم وظهرت دعوة المسيح في شرق الأرض وغربها بأفعال الحواريين من بعدهم, فتهاونهم بأمر أجسادهم يدل على أنهم كانوا يرون يعتقدون بقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.

ومن ذلك أفعال الرهبان والذين هم خيار أصحابه وأتباعه, إن أحدهم يحبس جسده في صومعته سنين كثيرة ويمتنع عن الطعام والشراب واللذات واللباس الناعم وملاذ الدنيا وشهواتها كل ذلك لشدة يقينهم ببقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.

التأسي بإبراهيم ويوسف عليهما السلام ومما يدل على أن إبراهيم خليل الرحمن كان يرى هذا الرأي قوله:" الذي خلقني فهو يهدين والذي يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين, رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين".

وهكذا قول يوسف الصديق:" رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ".

أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل أُلحق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خلقا وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب وما شاكلها من الأخلاط الأربعة.

التأسي بأهل بيت نبينا عليهم السلام ما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام كانوا يرون هذا الرأي تسليمهم أجسادهم إلى القتل يوم كربلاء ولم يرضوا أن يتولوا على حكم يزيد وزياد وصبروا على العطش والطعن والضرب حتى فارقت نفوسهم أجسادهم ورفعت إلى ملكوت السماء ولقوا آباءهم الطاهرين محمداً وعلياً والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم في ساعة العسرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه, ولو لم يكن القوم مستيقنين ببقاء نفوسهم بعد مفارقة أجسادهم لما تعجلوا لهلاك أجسادهم وتسليمها إلى القتل والضرب والطعن وفراق لذيذ عيش الدنيا ولكن القوم قد علموا وتيقنوا ما دعوا إليه من الحياة الآخرة والنعيم والخلود فيها والفوز والنجاة من غرور الدنيا وبلائها, فبادر القوم إلى ما تصوروا وتحققوا وتسارعوا في الخيرات وكانوا يدعون ربهم رغباً ورهباً وكانوا من خشيته مشفقين.

فهل لك يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه أن تقتدي بهم وبسنتهم وتسلك مسلكهم وتقصد مقصدهم وتبادر قبل الفوات في فكاك نفسك من أسر الطبيعة وتنجيها من بحر الهيولى وتخرجها من قعر الأجسام وظلمة الأجساد ونيران الشهوات المحرقة والغرور باللذات الجرمانية في جوار الشيطان وتعمل كما يعمل الناس النجباء بأن تصحب إخواناً لك نصحاء وأصدقاء كرماء محبين لك وادين ومواظبين على نجاتك ونجاة نفوسهم وأن ترغب في صحبتهم وتسمع أقاويلهم وتفهم كلامهم بحضورك في مجالسهم وتنظر في كتبهم لتعرف اعتقادهم وتتخلق بأخلاقهم وتتعلم علومهم وتسير بسيرتهم العادلة وتعمل بسنتهم الزكية وتتفقه في شريعتهم العقلية لتحيا كحياتهم الملكية وتعيش عيش السعداء مخلداً أبداً وتتجنب صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لصلاح أمور دنياهم وحياة أجسادهم ودفع المضرة عنها وهم يهلكون نفوسهم وهم لا يشعرون.
 

فصل في أن للنفس النباتية سبع قوًى​

ثم اعلم يا أخي أن للنفس النباتية سبع قوًى فعالة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصوِّرة، وأن أول فعلها عند استقرار النطفة في الرحم هو جذبها دم الطمث إلى الرحم وإمساكها لها هناك وهضمها.
ثم اعلم يا أخي بأنه إذا جذبت هذه القوة الدم إلى هناك أخفته حول النطفة وأدارته عليها كما يدور بياض البيض حول محِّها، فيكون عند ذلك حول النطفة كالمحة ودم الطمث حولها كالبياض، ثم إن حرارة النطفة تسخن رطوبة الدم فتنضجها، فتسخن وتنعقد تلك الرطوبة، فتصير علقة كما ينعقد اللبن الحليب من الأنفحة، وتستولي عند ذلك على تلك الجملة قوى روحانيات زُحَل، وتَبقَى في تدبيراتها بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب شهرًا واحدًا ثلاثين يومًا سبعمائة وعشرين ساعة كما ذكر ذلك في كتب أحكام النجوم بشرح طويل، ونريد أن نذكر من ذلك طرفًا ليكون دستورًا لما أن نتكلم فيما بعد.
واعلم يا أخي بأن ابتداء تدبير النطفة إنما صار لزُحَل من أجل أنه أعلى الكواكب السيارة فلكًا مما يلي فلك الكواكب الذي هو مكان الجواهر الشريفة ومنصبُّ القوى الروحانية ومعدن النفس القدسية ومستقر الأرواح الخَيِّرة ومبدأ القوى العقلية والملائكة العلامة المفكِّرة والأجرام النيِّرة الشفَّافة، ومن هناك تنزل الملائكة بالوحي والتأييد والأنباء والخير والبركات، وإلى هناك يُصعَد بالأعمال الصالحة وإليه يُعرَج بأرواح المؤمنين وأنفس الأخيار من عباده الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، كما بيَّنَّا في رسالة البعث والقيامة.
فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، واستعدَّ للرحلة من هذه الدار، وتزوَّد فإن خير الزاد التقوى، فلعل نفسك توفَّق إلى الصعود إلى هناك فتُجازَى بأحسن الجزاء؛ لأن مِن هناك وُرُودها إلى هذا العالم وإلى هناك يكون مرجعها ومستقرُّها، كما بيَّنَّا في رسالة الأدوار والأكوان.
ثم اعلم يا أخي بأنه ما دام التدبير لزحل إلى تمام شهر ثلاثين يومًا، فإن تلك العلقة تكون باقية بحالها غير مختلطة ولا ممتزجة، بل جامدة متمسكة جارية إليها المواد لغلبة برد زحل وسكونه وثقل طبيعته إلى أن يدخل الشهر الثاني ويصير التدبير للمشتري الذي فلكه يتلو فلك زحل، وتستولي عليها قوى روحانيته، فيولد عند ذلك في تلك العلقة حرارة، وتسخن ويعتدل مزاجها، ويختلط الماءان ويمتزج الخلطان ويعرض لتلك الجملة حركة مثل الاختلاج والارتعاش والهضم والنضج، فلا تزال هذا حالها ما دامت في تدبير المُشتَرِي إلى تمام شهرين، ثم يدخل الشهر الثالث ويَصير التدبير للمِرِّيخ الذي يلي المُشتَرِي في الفلك، وتستولي على تلك العلقة قوى روحانيته ويشتد اختلاجها وارتعاشها ويتولد فيها فضل حرارة وسخونة وتصير تلك العلقة مضغة حمراء، فلا تزال تتقلب حالًا بعد حال من النضج والاستحكام بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب للمِرِّيخ إلى تمام ثلاثة أشهر، ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس رئيسة الكواكب وملكة الفلك وقلب العالم بإذن الباري — جلَّ ثناؤه.

(٣) فصل في كيفية حال الجنين في الشهر الرابع​

واعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الرابع من مسقط النطفة وصار التدبير للشمس، واستولت على المضغة قوى روحانياتها نفخت فيها روح الحياة وسرت فيها النفس الحيوانية؛ وذلك لأن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك ونفسها هي روح العالم بأسره وهي المستولية على الكائنات التي دون فلك القمر وخاصة على مواليد الحيوانات ذوي الرحم وأشد اختصاصًا بمواليد الإنس، وذلك أن جرمها في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن وسائر أجرام الكواكب والأفلاك بمنزلة أعضاء البدن ومفاصل الجسد، وسريان قوى روحانياتها في العالم كسريان الحرارة الغريزة المنبثَّة من القلب السارية في أعضاء البدن.
وأما سائر قوى روحانيات الكواكب فهي لها كالجنود والأعوان والخدم، كل ذلك بإذن الباري — جلَّ ثناؤه — وذلك تقدير العزيز العليم فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم اعلم يا أخي أنها بمسيرها في حدود الكواكب في البروج وشدة إشراق نورها وسريان قوى روحانياتها تحطُّ من الفلك إلى عالَم الكون والفساد الذي تحت فلك القمر من قوى روحانيات الكواكب والأفلاك والبروج في كل يوم ساعة في درجة ودقيقة ألوانًا من التدبير والتأثير غير ما في يوم آخَر وساعة أخرى لا يبلغ فهم البشر كنه معرفته، ولكن نذكر من ذلك طرفًا ليكون قياسًا على ما قلناه ودليلًا على ما أوضحناه ووصفناه، وذلك أنه إذا سقطت نطفة في الرحم، فلا بد أن تكون الشمس في درجة من برج من الأبراج فإذا بلغت بمسيرها أربعة أشهر من مسقط النطفة إلى آخر البرج الرابع، وقد قطعت من الفلك ثلث الدور، وهو من المسافة بمقدار ما بين شرفها إلى بيتها تكون قد استوفت طبائع البروج النارية والترابية والهوائية والمائية.
وعند ذلك تكون قد اختلطت الطبائع من الأركان الأربعة في تركيب بنية الجنين، واعتدل المزاج، وانتقشت الصورة، وأنشئت الخلقة، وظهرت أشكال العظام، وركبت المفاصل، وتهندم التركيب، والتفَّتِ الأعصاب على المفاصل، وامتدَّت العروق في خلل اللحم، وظهرت البنية مخلَّقة وغير مخلَّقة.

(٤) فصل في كيفية الجنين في الشهر الخامس​

اعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الخامس وسارت الشمس إلى البرج الخامس المسمَّى بيت الولد الموافق طبيعته للبرج الذي كان فيه يوم مسقط النطفة، وصار التدبير للزهرة الساعد الأصغر وصاحبة النقش والتصاوير، واستولى على المخلَّقة قوى روحانياتها استتمت الخِلْقة، واستكملت البنية، وظهرت صورة الأعضاء، واستبان رسم العينين، وانشق المنخران، وانفتح الفم وثقب الأذنين ومجرى السبيلين، وتميزت المفاصل، ولكن الجنين يكون مجموعًا منضمًّا منقبضًا كأنه مصرور في صرة ركبتاه مجموعتان إلى صدره ومرفقاه منضمَّان إلى حقويه، وهو منكس رأسه على ذقنه وعلى ركبتيه، وكفَّاه على خدَّيْه، وهو شبه نائم محزون.
فلو رأيتَه يا أخي لرحمتَه لضِيق مكانِه وضعف أحواله، ولكنه لا يحس بما هو فيه رفقًا من الله — تعالى — بخلقه ولطفًا بهم، وتكون سُرَّته متصلة بسُرَّة أمِّه تمتص الغذاء منها إلى يوم الولادة، ويكون وجهه إن كان ذكرًا مما يلي ظهر أمه، وإن كان أنثى فعكس ذلك.
فانظر يا أخي في هذا الفعل وتفكَّر فيما ذكرنا، فلعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فترى بعين قلبك هذا الصانع الحكيم كما رأيتَ بعينَيْ رأسِك مصنوعاته، ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون.
واعلم يا أخي بأن كثيرًا من الحيوانات تتوالد في هذه المدة المذكورة مثل الغنم والظباء وبعض السباع وكل حيوان لا يحتمل الحمل والكَدَّ.
ومنها ما يتأخَّر ولادتها إلى تمام ستة أشهر وتسعة أو عشرة أو اثني عشر لأغراض أخرى قد بيَّنَّاها في رسالة الحيوان، ونحن نذكر في فصل آخَر من هذه الرسالة ما الغرض في تأخير ولادة الإنسان إلى تمام ثمانية أشهر ومكث الجنين في الرحم إلى الشهر التاسع.

(٥) فصل في كيفية حال الجنين في الشهر السادس​

ثم اعلم أنه عند دخول الشهر السادس يصير التدبير لعُطَارد، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيتحرك عند ذلك الجنين في الرحم ويركض برجليه ويمد يديه ويبسط جوارحه ويضطرب ويحس بمكانه ويفتح فاه ويحرك شفتيه ويتنفس من منخريه ويدير لسانه في فيه، فيكون تارةً متحركًا وتارةً يسكن وتارةً ينام وتارةً يستيقظ، فلا يزال ذلك دأبه إلى أن يتم الشهر السادس ويدخل الشهر السابع، ويصير التدبير للقمر، وتستولي عليه قوى روحانياته فيربو لحم الجنين حينئذٍ وتسمن جثته وتنتصب قامته وتشتد أعضاؤه وتصلب مفاصله وتقوى حركته ويحس بضيق مكانه، ويطلب التنقل والخروج، فإن قُدِّر له ذلك بما يوجب أحكام النجوم بأسباب يطول شرحها وخروجها على المجرى الطبيعي، وكان الجنين كاملًا عاش وتربَّى وعُمِّر، وإن بقي هناك إلى أن يدخل الشهر الثامن وتدخل الشمس بيت الموت ويرجع التدبير إلى زُحَل من الرأس فتستولي عليه قوى روحانياته عرض للجنين ثقل وسكون وغلب عليه البرد والنوم وقلة الحركة، فإن ولد في هذا الشهر كان بَطِيء النشوء ثقيل الحركة قليل العمر، وربما كان ميتًا، وإذا دخل الشهر التاسع وانتقلت الشمس إلى البرج التاسع بيت النقلة والأسفار ورجع التدبير إلى المُشتَرِي السعد الأكبر واستولت عليه قوى روحانياته واعتدل المزاج وقويت روح الحياة ظهرت أفعال النفس الحيوانية في الجسد؛ لأن الشمس تكون قد استوفت طبائع البروج المثلثات النارية والمائية والهوائية والترابية مرتين في الثمانية الأشهر.
وقد سارت الشمس في فلك البروج مائتين وأربعين درجة، وهذه المسافة مقدار ما بين بيتها إلى شرفها التاسع من بيتها المتفقين في طبيعة واحدة، وتكون أيضًا في هذه المدة قد قَبِلَتْ طبيعة الجنين قوى روحانيات الكواكب المنحطة من الفلك مرتين بمسير الشمس في البروج المثلثات مرة إلى البرج الخامس ومرة إلى البرج التاسع، كما تقدم ذكرها، ويبقى مرة أخرى كما نبين بعد هذا الفصل، ويكون الذي يبقى للشمس إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها وقت مسقط النطفة أربعة أبراج ومائة وعشرين درجة إلى تمام الدور.
فإذا خرج الجنين بعد ثمانية أشهر استأنف العمر في الدنيا لكل درجة سنة الذي هو العمر الطبيعي وهو المقدار الذي بقي للشمس إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة ليستوفي الإنسان طبائع البروج مرة ثالثة حتى يتم ويكمل.
وأما الذي يزيد وينقص عن هذا المقدار فلأسباب وعلل يطول شرحها، وهي مذكورة في كتاب أحكام النجوم ومكث الأجنة وأعمار المواليد، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة العلل والمعلولات، ولكن نذكر من ذلك طرفًا ليكون دليلًا على ما وصفنا.
واعلم يا أخي بأن الكائنات التي تحت فلك القمر تبتدئ من أنقص الحالات وأدْوَنها مترقِّية إلى أتمِّها وأفضلها، ويكون ذلك في مر الزمان والأوقات؛ لأن طبيعتها لا تقبل فَيْض أشخاص فلكية دفعة واحدة، ولكن شيئًا بعد شيء على التدريج كما يقبل المتعلم الذكي من الأستاذ الحاذق.
واعلم بأن فيضات الكواكب من محيط الأفلاك متصلة نحو مركز الأرض في دائم الأوقات، ولكنها مفننة الألوان متغايرة الأشكال، وذلك بحسب مواضعها من أفلاكها وموازاتها من فلك البروج وحدودها كما نبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي بأن الحكمة الإلهية والعناية الربانية قد جعلت لكل كائن من الموجودات تحت فلك القمر مقدارًا من الوجود والبقاء معلومًا مقدرًا أو يكون ذلك بمقدار دور شخص من الأشخاص الفلكية، كما بينَّا طرفًا منه في رسالة ماهية الطبيعة، ولكن نذكر من ذلك أيضًا ها هنا مثالًا واحدًا من الأشخاص الإنسانية، وذلك أن نطفة الإنسان إذا سقطت في الرحم فإن مكثها الطبيعي إلى أن تقبل صورة الإنسانية أربعة أشهر بمقدار ما تسير الشمس أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، وتستوفي بمسيرها طبائع البروج والمثلثات مرة واحدة، فعند ذلك يبقى الجنين إلى يوم الولادة أربعة أشهر أُخَر، وهو مقدار ما تسير الشمس أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، وتستوفي بمسيرها طبائع البروج المثلثات مرة أخرى، وبذلك يبقى لها أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة مائة وعشرين درجة، فيستوفي المولود العمر الطبيعي في الدنيا مائة وعشرون سنة لكل درجة بقيت للشمس سنة.
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن أفعال الكواكب وتأثيرات قوى روحانياتها في الأربعة الأشهر الأول تكون مصروفة إلى تأسيس بنية الجسد وتكوين أعضائه المختلفة وسريان قوى النفس النباتية، وذلك أن لكل عضو من الجسد مثل القلب والكبد والدماغ والمعدة والرئة والطحال والأمعاء والعروق والأعصاب والعظام والعضلات والمخ والجلد وما شاكلها خلقة خلاف ما لعضو آخر، ولكل خلقة تركيب ولتركيبه أخلاط ولتلك الأخلاط أمزجة، ولتلك الأمزجة طبائع مختلفة في الكمية، وفي الكيفية من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة خلاف ما للآخر كما ذكر ذلك في كتاب التشريح بتطويل، وكما ذكرنا ذلك في كتاب طبائع الأغذية ودرجات قواها، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة النبات، وللنفس النباتية في كل عضو فعل طبيعي خلاف ما في عضو آخر كما بيَّنَّا في رسالة نشوء الأنفس الجزئية.

(٦) فصل في أن بنية الجسد وتركيب أعضائه يتم في أربعة أشهر​

اعلم يا أخي أن بنية الجسد وتركيب أعضائه يتم في هذه الأربعة الأشهر؛ لأن الشمس التي هي رُوح العالَم في هذه المدة بمسيرها في أربعة أبراج المثلثات تكون قد حطَّتْ طبائع تلك الأبراج من محيط الأفلاك إلى عالم الكون والفساد الذي دون فلك القمر، وتكون قد سَرَتْ قوى روحانيات الكواكب التي فوق الأرض في بنية الجسد، وركزت في مراكزها، كما بيَّنَّا في رسالة أفعال الروحانيات، وعلة أخرى أيضًا أن في هذه الأربعة الأشهر تكون قد اجتمعت من مادة بنية الجسد ما تحتاج إليه الطبيعة الفاعلة، وذلك يوم مسقط النطفة؛ إذ تكون تلك المادة هناك مجتمعة؛ لأن الطبيعة كانت تدفعها إلى خارج البدن في أيام الحيض، فإذا استقرَّتِ النطفة في الرحم جذبت عند ذلك تلك المادة إلى نفسها كما تجذب نار السراج الدهن بالفتيلة إلى نفسها، وكما يجذب حجر المغناطيس الحديد إلى نفسه، فإذا حصل ذلك الدم حفَّ حول النطفة كما يحفُّ بياض البيضة حول محِّها، ثم إن حرارة النطفة تسخن ذلك الدم وتجمده كما تفعل الأنفحة باللبن الحليب، وهو أول فعل يكون من قوى روحانيات زُحَل في النطفة؛ لأن مِن خاصَّة أفعاله إمساك الصورة في الهَيُولَى والسكون والثبات.
وأما تأثيرات الكواكب من البروج في الأربعة الأشهر الثانية فتكون مصروفة إلى تتميم بنية الجسد وإحكام خِلْقة الأعضاء لكيما تسري فيها قوى النفس الحيوانية، ويُمكِنها إظهار أفعالها.
وذلك أن الشمس في هذه المدة بمسيرها في الأبراج المثلثات الأُخَر تحطُّ تلك القوى مرة أُخرَى، فإذا تمَّتِ البنية واستحكمت الخلقة سرت فيها قوى النفس الحيوانية، ونقلت تلك الجملة من الرحم إلى فسحة هذا العالم، واستوفت به تدبيرًا آخَر أربع سنين لكيما تكمل البنية، وتستحكم الصورة، ويمكن أن تسري فيها القوى الناطقة وتَظهَر أفعالها فيها، وذلك أن تلك القوات الروحانية تصرف تأثيراتها وأفعالها إلى تربية المولود وأحكام إدراك الحواس محسوساتها ثم ترد النفس الناطقة وينطلق لسان المولود بالعبارة عن معاني تلك المحسوسات وتمييزها.

(٧) فصل في أن الكواكب لا يمكن أن تفعل تأثيراتها في شهرين ولا ثلاثة​

واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن تفعل هذه الكواكب هذه الأفعال والتأثيرات في شهرين ولا ثلاثة إلى ما هي عليه الآن كما بيَّنَّا، ونضرب لذلك مثلًا محسوسًا من مصنوعات البشر كيما يُتصوَّر مصنوعات الطبيعة.
ذلك أن البناء إذا أراد بناء دار، فإنه يصرف أولًا همَّتَه وأفعالَه مدة ما في تأسيس البناء ورفع الحيطان وإقامة الأعمدة وعقد الأبراج وتسقيف البيوت ليتبيَّن أولًا رسم الدار ويتمم البيوت والممرات والمجالس، وهذه مدة تكوين الدار وإيجادها، ثم يصرف عنايته وتدبيره بعد ذلك في تتميمها من تعليق الأبواب والشبابيك ونصب البازير وتزيين السطوح وتجصيص الحيطان، وتزويق السقوف والنقوش، وما شاكلها من التتميم، ثم يبقى بعد ذلك كمال الدار، وهو أن تُفرَش وتُعلَّق الستور وتُملأ الخزائن من الأموال والأثاث، ويسكنها رب الدار ويتمتع إلى حين.
فهكذا يجري يا أخي أمر تركيب جسد الإنسان واقتران النفس معه من يوم مسقط النطفة وتعلق النفس بها إلى يوم يموت الجسد، وهو أن تفارق النفس الجسد ويدفن في التراب، وهذه المدة هي بمقدار دَوْر واحد من أدوار تلك الأشخاص الفلكية كما بيَّنَّا في رسالة الأدوار والأكوان.
فلا ينبغي لك يا أخي أن تتوهم أو تظن أن هذه الكواكب والأفلاك والبروج التي ذكرنا أفعالها وتأثيراتها في تركيب الجسد الإنساني هي آلات وأدوات للباري — جلَّ ثناؤه — يخلق بها الإنسان، بل إنما هي آلات وأدوات للنفس الكلية الفلكية، وهذه النفس هي عبدٌ مُطيع للباري — تعالى — فقد أيَّدها بالعقل الكلي الذي هو مَلَك من ملائكته المقرَّبين: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ»، كما ذكر في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وستعلم يا أخي حقيقة هذه الأسرار والمرامي إذا انتبهتَ لنفسك من نوم الغفلة، واستيقظتَ من رقدة الجهالة، وارتفعتَ في المعارف الربانية، وارتَضْتَ في العلوم الإلهية إذا بعثتَ يوم القيامة، وشاهدتَ ملكوت رب العالمين، ووقفتَ على جبل الأعراف مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وإذ قد فرغنا من ذكر تأثير الكواكب في النطفة مجملًا فنزيد أن نذكر طرفًا من تأثيراتها في كل شهر وتردادها في أفعالها إذا كان بعضها في بيوت بعض وحدودها.
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن للأشخاص الفلكية الموجودات التي تحت فلك القمر من الحيوان والنبات والمعادن، وفي كل جنس منها تأثيرات مختلفة بحسب قبول كل نوع منها، ولكل نوع من تلك الأجناس تأثيرات مفننة بحسب أماكنها المختلفة، ولها في كل شخص من أشخاص تلك الأنواع تأثيرات متباينة بحسب قبولها في أزمان مختلفة في طول أعمارها لا يُشبِه بعضها بعضًا، ولا يبلغ فهم البشر كُنْهَ معرفتها، ولا يعلمها إلا الله — تعالى — ولكن نذكر منها مثالًا واحدًا ليكون قياسًا على الباقية، ونجعل المثال من شخص إنسان واحد، ونذكر فنون تأثيراتها فيه من يوم تسقط النطفة إلى يوم الولادة مدة تسعة أشهر ذكرًا مجملًا؛ إذ كان شرحها يطول، ثم نذكر فصلًا آخَر في فنون تأثيراتها فيه من يوم الولادة إلى يوم يموت، وهو آخِر العمر الطبيعي سنة سنة بقول وجيز؛ ليكون قياسًا على سائر المواليد من الكائنات تحت فلك القمر، فنقول: اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن تأثيرات الكواكب تختلف في الكائنات من جهات شتَّى تارةً منها من جهة اختلاف أحوالها في أفلاكها من الصعود إلى أوجاتها، أو من جهة النزول من هناك إلى الحضيض، وتارةً من جهة العرض والميل في الجنوب والشمال، وتارةً من جهة نسبتها إلى الشمس من التشريق والتغريب والرجوع والاستقامة والوقوف، وتارةً من جهة كونها في موازنة بعضها ببعض، وتارةً من جهة اختلاف مسامتها لبقاع الأرض وانحرافاتها منها في الأوتاد وما يليها أو ما يزول عنها، وتارةً من جهة اختلاف الشتاء والصيف والربيع والخريف والليل والنهار، وساعاتهما وأوائل الشهور وأواخرها وما شاكل ذلك، يعرف اختلاف هذه الأحوال أهل المَجَسْطي.
وأما اختلاف تأثيراتها في هذه الأحوال فيعرفها أصحاب الأحكام الذين يتكلمون على أحكام المواليد.
وأما معرفة كيفية وصول قوى الأشخاص الفلكية إلى هذه الأشخاص السفلية، فيعلمها الربانيون الناظرون في علم النفس، وقد بيَّنَّا طرفًا منها في رسالة أفعال الروحانيات.

(٨) فصل في كيفية تأثيرات الكواكب​

واعلم يا أخي أن هذه الأشخاص الفلكية لما كانت موضوعة بعضها من بعض على النسبة الموسيقية من ثلاثة أنواع أحدها نسبة أعظام بعضها عند بعض، والآخَر نسبة أبعاد مراكزها بعضها من بعض، ومن الأركان الأربعة، وكذلك الثالث نسبة حركاتها في سرعة وإبطاء، فمِن أجْل ذلك إذا عرضَتْ لها تلك الحالات المختلفة التي تقدَّم ذكرها في الفصل الأول اختلفتْ مناسباتها، فعند ذلك تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب اختلاف النسبة كما تختلف أصوات الموسيقى ونغماتها عند طول الأوتار وقصرها ودقتها وغلظها وسرعة حركات المضراب وإبطائها، فتختلف عند ذلك تأثيراتها في نفوس المستمعين بحسب اختلاف طبائعهم وآرائهم وأخلاقهم كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة الموسيقى.

فصل في أن الموجودات التي دون فلك القمر​

واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الموجودات التي دون فلك القمر كلها موضوعة لقبول تأثيرات الكواكب، ولكن لما كانت جواهرها مختلفة اختلف قبول تأثيراتها، وهي كثيرة الأنواع لا يُحصِي عددَها إلا الله — جلَّ ثناؤه — ولكن يجمعها كلَّها جنسان: جواهر جسمانية وجواهر روحانية، فالجسمانية هي أجسام الأركان الأربعة ومولداتها الكائنات منها من المعادن والنبات والحيوان، والجواهر الحيوانية هي نفوس الحيوانات أجمع.

فصل في فنون تأثيرات الكواكب​

واعلم يا أخي بأن فنون تأثيرات الكواكب في هذه الأجسام كثيرة لا يحصي عددها إلا الله — عزَّ وجلَّ — وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الطبيعة، وطرفًا في رسالة الآثار العلوية، وطرفًا في رسالة الحيوانات، وطرفًا في رسالة الأكوان والأدوار، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا من تأثيراتها مما يخص الإنسان، أما في مزاج بنية جسده أو في طبع أخلاق نفسه كيف تكون تلك التأثيرات، ولأي علة تختلف أخلاق النفوس وطباعها، فإنها من أعجب تأثيرات الكواكب، وأشرف أفعالها، وأدق أسرارها، وألطف دلالاتها، ونريد أن نشرح طرفًا منها ليتضح ما قلنا، ويُفهَم ما وصفنا، ولكن نحتاج أولًا أن نذكر خواصَّ طِبَاعها وأعراض وحداتها، ثم نذكر كيفية تأثيراتها وعجائب دلالاتها فنقول: اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن كل كوكب في الفلك فإن الباري قد جعله لأمر ولغرض أقصى، فزُحَل هو كوكب الثبات والوقوف، خلقه الله — جلَّ ثناؤه — لتنبثَّ من جرمه القوى الروحانية، فتَسرِي في الموجودات لإمساك الصور في الهَيُولَى وثباتها وبقائها ودوامها، ولولا وجود زُحَل وكونه في الفلك لما تماسكت صورة في الهَيُولَى، وثبتت خِلْقة في مادة طرفة عين إلا سالتْ وذابتْ واضمحلَّتْ، يَعرِف صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا العلماء الراسخون في علم الهيئات العارفون بحقائق الموجودات وكيفية نظام العالم، وماهية أسرار الخلقة.
واعلم يا أخي بأن زحل دليل الشهر الأول من مسقط النطفة كما وصفنا قبل، فإذا كان سليم المناحس والأحوال المذمومة سلمت تلك النطفة من الآفات العارضة بإذن الله تعالى، وهكذا حكم الحامل لتلك النطفة، فإذا كان بخلاف ذلك كان بالعكس.
مثال ذلك: أنه متى كان زحل صاعدًا في فلكه مستقيمًا في سيره في حدِّ نفسه من البرج والدرجة، فإن تلك النطفة تكون مرتفعة إلى أعلى بطنها، خفيف عليها حملُها، سليمة من الأوجاع والأعلال.
وإن كان في حدِّ المُشتَرِي كانت فرحانة بحملها حسنة الظن بربها مستقيمة السلامة والتمام.
وإن كان في حد المِرِّيخ تكون نشيطة في أعمالها مستعجلة في أمورها، وإن كان في حد الزُّهَرة تكون المرأة مسرورة بحملها مستبشرة بولادتها، وإن كان في حد عُطَارد فإنها تكون عارفة بوقت حملها حاسبة لأيام شهورها.
وإن كان زحل هابطًا في فلكه راجعًا في مسيره مذمومًا في أحواله كان الأمر بخلاف ما وصفنا، ثم يدخل الشهر الثاني فيصير التدبير للمشتري بإذن الله — عزَّ وجلَّ — وهو كوكب الاعتدال، وعلة صحة المزاج في الكائنات، وسبب النظام والترتيب في الموجودات، وهو دليل العقل في الإنسان والفهم والتمييز والعلم والروية والفقه والدين والورع والتُّقَى والعدل والإنصاف والعفَّة والزهد، وما شاكل هذه من الخصال المحمودة في الدين.
وبالجملة كل خصلة يحتاج إليها صاحب الناموس في وضعه الشريعة وإجرائه السنة في الملة، وما يحتاج إليه أتباعه وأنصاره من الخلفاء والأئمة والعلماء والفقهاء والقضاة والعُبَّاد والزُّهَّاد، وبالجملة كل مَن يخدم في الناموس ويعاون فيه من ولاة الأمور وحكام الدين والشريعة.
فإذا كان المُشتَرِي صاعدًا في فلكه مستقيمًا في سيره محمودًا في أحواله انعجن في تلك المادة المجتمعة في الرحم، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة قبول هذه الخصال المقدَّم ذكرُها، إن قدَّر الله لها التمام والكمال.
فإن كان المُشتَرِي في حدِّ نفسِه من البروج والدرجة تكون تلك الخصال كلها وأحوالها مصروفة بهِمَّة نفسِه إلى أمور الدين والشريعة وأحكام الناموس، وتكون نفسه ملهمة من ربِّها أو بمَلَك من الملائكة، فيتكلم بالحكمة شبه النبوة، ويدعو الناس إلى الله، وإلى الدار الآخرة.
وإن كان المُشتَرِي في حدِّ زُحَل يكون المولود بعيد الغور غائص العلم يأتي بالعلامة والمعجزات.
وإن كان في حد المِرِّيخ يكون ذلك بالقهر والقوة والغلبة والجلادة.
وإن كان في حد الزُّهَرة يكون دعاؤه للناس بالرفق واللين والموعظة الحسنة.
وإن كان في حد عُطَارد يكون ذلك الكلام والحجاج والخصومة والجدال، وتكون هذه الخصال كلها أو أكثرها حقًّا وصوابًا ومقبولة جارية على السداد متى كان المُشتَرِي مقبولًا من رب بيته ومثلثته، وَمَن يُشاركه من الكواكب في تقاسيم أوقاته.
فإن كان المُشتَرِي غير مقبول في موضعه من أرباب حظوظه يكون ذلك وأكثره بحِيَل وعكس وتمويه ومخاريق، ويعرف صدق ما قلنا وصحة ما ذكرنا أصحاب أحكام النجوم والراسخون في العلم منهم.
وإن كان المُشتَرِي في الشهر الثاني هابطًا في فلكه أو راجعًا في مسيره مذمومًا في أحواله، فإن المولود يكون بَطِيء الذهن قليل الفهم بليدًا لا يفكر في شيء من الأمور إلا ما يَرَى ويسمع، أو يباشره بحواسه، مثل البهيمة لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح، أو يتعلَّق بأمر المعاش في الحياة الدنيا، ويكون عن أمر الآخرة من الغافلين، إلا ما يُعلَّم ويُلقَّن تقليدًا وإيمانًا وتسليمًا.
ثم يدخل الشهر الثالث ويصير التدبير للمِرِّيخ، وهو ينبوع الحرارة والإسخان والنضج في الكائنات، وهو دليل الشجاعة والجسارة والصلابة والبسالة والتشمير والأنفة والحمية وما شاكلها من الخصال والأخلاق والطباع مما يحتاج إليه قادة الجيوش وأصحاب الحروب ومَن يتبعهم ويخدمهم ويعاشرهم.
فإن كان المِرِّيخ صاعدًا في فلكه مستقيمًا في سيره محمودًا في أحواله انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة التهيؤ والقبول لهذه الخصال، إنْ قدَّر الله لها التمام والكمال.
فإن كان المِرِّيخ في حدِّ نفسه من البرج والدرجة تكون تلك الخصال والأخلاق مصروفة أو أكثرها بهِمَّة نفسه إلى القتال والحروب والمبارزة ومباشرة الأقران وطلب الغلبة بالقهر والأنفة من الانقياد للغير والإذعان له.
وإن كان المِرِّيخ في حدِّ زُحَل اختلط مزاجهما واتحدت قوتاهما، وظهرت تلك الخصال المِرِّيخية من صاحبها بالتثبُّت والأناة والصبر والتوقف وقلة العجلة مع الحقد والغضب والمكر والحيلة والأنفة من العار والفرار.
وإن كان المِرِّيخ في حدِّ المُشتَرِي اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، وظهرت أفعال تلك القوى والأخلاق والخصال بعقل وروية ومعرفة بمواقع الإقدام وطلب العدل والإنصاف والكفِّ عن الغدر والظلم.
وإن كان المِرِّيخ في حد الزُّهَرة اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، ويكون ذلك الأمر سبب الشهوات وعشرة النساء والحرم والحمية والافتخار والخيلاء والمباهاة والتعرُّض للتلف.
وإن كان المِرِّيخ في حدِّ عُطَارد اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، وظهرت تلك الخصال بدهاء وأدب وفطنة ومراوغة وحقد وسرعة حركة وإصابة لحيلة.
وإن كان المِرِّيخ هابطًا في فلكه أو راجعًا في سيره أو منحوسًا في أحواله كان ذلك المولود جبانًا مهانًا ذليل النفس صغير الهمة محتملًا للذل والهوان كالنساء والصبيان.
ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس بإذن الله — تعالى — التي هي النَّيِّر الأعظم قلب الفلك وينبوع النور وفائض الضياء والإشراق ومقر روح العالم المنبثَّة من جرمها قوى النفس الكلية الفلكية السارية في الموجودات وهي أجمع دليل للمُلْك والرياسة في الإنسان، وكبر النفس وعلو الهمة والعز والسلطان والعظمة والجلال والقوة والشدة والتدبير والسياسة.
وبالجملة كل خصلة وخُلُق يحتاج إليها الملوك والرؤساء وأتباعهم في تدبيرهم وسياستهم، فإذا كانت صاعدة في فلكها أو كانت في بيتها أو شرفها أو أَوْجِها بريَّة من المناحس والأحوال المذمومة انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في طبع تلك الجملة، إنْ قدَّر الله لها بالتمام والكمال محبة الرياسة وكبر النفس وعلو الهمة.
وإن كان في حدِّ زُحَل من البرج والدرجة، وامتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما كان المولود كبير النفس، قويَّ البنية، عالِيَ الهِمَّة، رابط الجأش، شديد العزيمة، صابرًا في الأعمال، بعيدَ الغَوْر، متمسِّكًا بما يَملِك، حافظًا لما يعلم، ثابت الرأي، حازمًا في الأمور، وما شاكل ذلك من الأخلاق والطباع والخصال.
وإن كانت في حدِّ المُشتَرِي، وامتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما كان المولود إنْ قدَّر الله له التمام والكمال متهيِّئ النفس لقبول خصال المُلْك والنبوة جميعًا، وهي فضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية.
وإن انفكَّ مولوده لبرج القران أو بطابع القران أو بأحد أوتاد لها عند استئناف أحد الأدوار كان ذلك المولود النبي المبعوث في ذلك الدور والإمام للناس في ذلك الزمان.
فأما كيفية مبعثه وآياته ومعجزاته وكتابه بأي لغة يكون وإلى أي أمة يبعث من الناس، وكيف أحكام شريعته ومفروضات سنته وسيرة أمته وتصرف أحوالهم، فيحتاج إلى شرح طويل، وهو مذكور أو أكثره في كتب القرانات وأدوار الألوف.
فإن كانت الشمس في حدِّ المِرِّيخ امتزجت طبيعتاهما، واتحدت قوتاهما، وصار طبع المولود وأخلاق نفسه ممتزجة من طبيعتهما متهيئة لقبول تأثيراتهما في أيام حياته وطول عمره.
وعلى هذا القياس إذا كانت في حد الزُّهَرة وعُطَارد امتزجت طباعهما واتحدت قواهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراتهما وأخلاقه مركبة وممتزجة من طباعهما وتأثيراتهما مما يطول شرحه.
وبعضها مذكور في كتب أحكام التحاويل، ويَعرِف صحة ما قلنا وحقيقة ما ذكرنا الناظرون في تلك الكتب والباحثون عن هذا العلم.
وإن كانت الشمس على خلاف ما وصفنا من صلاح أحوالها في الفلك أو كانت على النسبة الأدون كان المولود صغير النفس والهمة قليل القبول للفضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية والهمم الربوبية.
ثم يدخل الشهر الخامس ويصير التدبير للزهرة دليل النقش والتصاوير والشكل، والدلِّ، والغنج، والتِّيه، والحُسْن، والزينة، والجمال، والبهجة، والعيش، والطبيعة، والشهوات، واللذَّة، والسرور، والغبطة.
وبالجملة كل خصلة وفضيلة تريد الحياة والبقاء وطول العمر، ومن أجلها في الدنيا والآخرة جميعًا.
فإن كانت الزُّهَرة صاعدة في فلكها مستقيمة في مسيرها محمودة في أحوالها انعجن في تلك المادة بإذن الله، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة مَحَبَّة هذه الخصال وشهوتها في غاية ونهاية.
فإن كانت في وجهها من البرج كانت صورة الجسد بيضاء درية اللون، مشوبة بحمرة أو صفرة، فيه جعدة الشعر وغنجه، جميل المنظر حسن العينين، حلو المنظر صحيح الوجه والعين، سوادها أكثر من البياض، مكلثم الوجه، صغير الحاجبين، مدور الرأس، حسن العنق، دقيق الشفتين، كثير لحم الخدين، قصير الأصابع، غليظ الساقين، ربع القامة، دقيق البشرة، أكحل وأشهل.
وإن كانت في حدها أيضًا كان المولود مقبول الجملة خفيف الروح حسن الأخلاق جيد الطبع حسن العشرة جيد المعاملة.
وإن كانت في وجه زحل من البرج والدرجة كانت صورة الجسد غليظ الشفتين ضخم العينين جعد الشعر مختلف الأسنان مشقق الرجلين قوي البنية هيوب المنظر إحدى عينيه خلاف الأخرى بالصغر أو بالكبر أو اللون أو الحركة أو الشكل، وإن تكن الزُّهَرة أيضًا في حد زحل من البرج، والدرجة يكون المولود شديد العشق والمحبة ثابت المودة، ذا وفاء وعهد وأمانة، قليل الغدر والخيانة، ضابطًا لنفسه صبورًا.
وإن كان في وجه المُشتَرِي من البرج والدرجة، فإن بنية الجسد تكون معتدلة المزاج متناسبة الأعضاء، ويكون حلو الشمائل أبيض اللون إلى السمرة عظيم العينين الحدقة أدكن الشعر كثَّ اللحية حسن الهيئة ناتئ الوجنتين غليظ الأرنبة معتدل اللحم والقد والقامة نظيف البشرة متهلل الوجه.
وإن كانت أيضًا في حد المُشتَرِي من البرج والدرجة وامتزجت طبيعتهما واتحدت قوتهما كان المولود خيِّرًا بالطبع حسن الأخلاق محمود الخصال عادل السيرة حسن العشرة متصفًا في المعاملة صادقًا في المودة، وربما أديبًا صحيح الاعتقاد مستقيم المذهب مثل أخلاق الملائكة.
فإن كانت الزُّهَرة هابطة في فلكها أو راجعة في مسيرها أو مختلفة أحوالها نقصت سعادته لأسباب يطول شرحها مذكورة في كتب الأحكام والمواليد والتحاويل.
ثم يدخل الشهر السادس ويصير التدبير لعُطَارد صاحب العلوم والمعارف والحسِّ والشعور والآداب والحِكَم والحركات والصنائع والنطق والبيان والكلام والفصاحة والتمييز والفطنة والقراءة والنغمة والرياضات والحكمة، وهو أخو المُشتَرِي الصغير، كما أن الزُّهَرة أخت المِرِّيخ، والقمر أخو زُحَل، والشمس أبوهم.
فإن كان عُطَارد صاعدًا في فلكه، مستقيمًا في مسيره، صالحًا في أحواله، انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة قبول العلوم والمعارف والنظر والبيان.
فإن كان عُطَارد في حدِّه من البرج والدرجة تصير نفس ذلك المولود بإذن الله — سبحانه — ذكية وقلبه حيًّا وذهنه صافيًا وفهمه حادًّا وخاطره سريعًا ومعارفه دقيقة وعلومه بديعة وبيانه فصيحًا.
فإن كان في حدِّ زُحَل امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان المولود إنْ قدَّر الله له بالتمام والكمال دقيق النظر في العلوم بعيد الغور في البحث غائص الفكر في المعارف ثقيل اللسان في البيان عسر العبارة عما في نفسه من المعاني.
وإن كان عُطَارد في حدِّ المُشتَرِي صارت همة نفس المولود بإذن الله — سبحانه — في علم الدين وكلامه وأقاويله أكثرها في أمر الورع وأحكام الشرع ومواعظ الناموس ووصف العدل وبيان الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر المعاد ووصف أحوال الآخرة والمنقلب بعد الموت عند فراق النفس الجسد الذي هو الغرض الأقصى في رباط الأنفس الجزئية بالأجساد البشرية، كما بيَّنَّا في رسالة البعث والقيامة.
وإن كان عُطَارد في حدِّ المِرِّيخ امتزجت طبيعتهما واتحدت قوتهما، وصارت نفس المولود متهيِّئة لقبول تأثيراته، وتكون همة نفسه أكثرها في الكلام في الخصومات والجدل، ووصف الحروب، ويكون لَسِنًا متكلِّمًا عجولًا في خطابه سريعًا في جوابه، كثير الزلل والخطأ سريع المراجعة، وربما كان شاعرًا أو خطيبًا أو قاضيًا أو مناظرًا أو مجادلًا.
وإن كان عُطَارد في حدِّ الزُّهَرة امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراتهما، وتكون أكثر همة نفسه الكلام في وصف محاسن أمور الدنيا ونعت شهواتها ووصف لذاتها بالأشعار والغناء والألحان والنغمات والإيقاعات الموزونة والحركات المنتظمة.
وإن كان عُطَارد هابطًا في فلكه راجعًا في مسيره أو مذمومًا في أحواله كان المولود سِكِّيتًا أو أخرس أو بليدًا أو معتوهًا.
ثم يدخل الشهر السابع، وينتهي مسير الشمس إلى البرج السابع المقابل لموضعها الذي كان عند مسقط النطفة، ويصير التدبير للقمر النَّيِّر الأصغر نظير الشمس في المنظر، المخالِف في المخبر، المتوسط بين العالَمَيْن، الآخِذ من طبايع الكواكب فيضَها من العالَم العلوي، الفائض المؤدِّي تلك الفيضات والخيرات إلى العالَم السفلي.
فإن كان القمر عند ذلك صاعدًا في فلكه زائدًا في نوره سريعًا في مسيره بريًّا من المناحس انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة، ذلك الفيضان الذي يؤدِّيه القمر من هناك إلى هذا العالم، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول سائر تأثيرات الكواكب بحسب الحال التي عليها القمر من الخمسة والعشرين حالًا المذكورة في كتاب مدخل النجوم.
وإن كان القمر في منزلته أو شرفه أو في أوْجِه أو في ميله أو وجهه كان المولود إن قدَّر الله — عزَّ وجلَّ — بالتمام والكمال مسعودًا في أكثر أحواله محمودًا في أكثر أموره في الدنيا والآخرة جميعًا.
وإن كان القمر في حد عُطَارد امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتاهما، وكان المولود ممزوج الطبائع مختلفها متفنن الشمائل متلون الأخلاق متنقلًا في الآراء والمذاهب متداخلًا في الأمور المشاكِلة، متشابكًا في الأمور الدنيوية قليل الثبات فيها، سريع التغير عنها، كثير التنقل فيها، سهل الانقياد، سريع البلوى، مواتيًا لهوى نفسه، متباعدًا عن إخوانه.
وإن كان القمر في حدِّ زُحَل كانت الأمور التي وصفنا بالضد مما ذكرنا، وكان المولود في أكثر أحواله ثابتًا قليل التغير والتنقل إلا بعد عسر وشدة.
وإن كان القمر في حد الزُّهَرة وكان المولود ذكرًا امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان الظاهر على المولود شمائل الذكور، والباطن شمائل الإناث.
وإن كان المولود أنثى كان ظاهرًا على شمائله طبائع الأنوثة وباطنه طبائع الذكور، وإن يكن القمر في حد المِرِّيخ امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان ظاهر المولود عليه شمائل العامية وأخلاق نفسه مِرِّيخية، وظاهر أحواله عامية ومذاهبه مذاهب صيدية.
وإن كان القمر في المُشتَرِي امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتاهما، وكان المولود في أكثر أحواله معتدلًا بين الطرفين، متوسطًا في الأمور الدنيوية والأخروية جميعًا.
وإن قدر الله — سبحانه — أن يولد في هذا الشهر عاش وتربَّى وكان له عمر، وإن بقي إلى أن يدخل الشهر الثامن رجع التدبير إلى زحل من الرأس، ويكون زحل رديء الحال.
وتدخل الشمس البرج الثامن بيت الموت، ويغلب على الجنين برد طبيعة زُحَل وسكونه، فإن وُلد في هذا الشهر كان قليل العمر، أو ربما لا يتربَّى ولا يعيش.
ثم يدخل التاسع بيت الأسفار والنقلة، ويصير التدبير للمشتري من الرأس كما سنبين بعد.

فصل في أن مكث الجنين في الرحم إنما هو لكي تتم البنية​

قد تبيَّن مما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم تسعة أشهر، إنما هو لكيما تتم البنية وتستكمل الصورة وتفيض عليها قوى الأشخاص الفلكية، ولو أمكن تتميمها وتكميلها في يوم واحد لما تُركتْ هناك يومَيْن، ولو أمكن في شهرين.
وقد يَعرِف كل عاقل أن مَن يولد غير تامِّ البنية ولا كامل الصورة لا ينتفع في هذه الدنيا ونعيمها، ولا يتلذذ ولا يتمتع بلذاتها على التمام والكمال، ولم يَزَلْ شقيًّا منغَّص العيش مبتلًى كالزَّمْنَي والمفاليج والناقصي الخلقة الغير تامِّي الصورة.
فهكذا الحكم والقياس في الدار الآخرة بعد الموت، وذلك أن الإنسان إنما يترك في هذه الدنيا مقدار ما يمكنه تتميم أحوال نفسه مع الجسد كما ذكر ذلك في كتب الطبيعة والحكمة وتكمل فضائلها بالكون في الدنيا، كما ذكر في كتب النبوة.
فإذا فارقتِ النفس الجسد عند الموت الذي هو ولادة ثانية انتفعت بالحياة في الدار الآخرة، ويمكنها الصعود إلى ملكوت السموات كما قال المسيح عليه السلام: «مَن لم يولد ولادتين لا يَلِج في ملكوت السماء.»
وقد أوصى الأطباء بالوالدين وأمروا الحوامل من النساء بالرفق بأنفسهن في حركاتهن وتصرفاتهن باعتدال وبوسائط بلا إفراط ولا تقصير، كيما يسلم الجنين من الآفات العارضة هناك، ويخرج الطفل سالمًا إلى هذه الدنيا، ويتربَّى ويَعِيش وينتفع بالحياة، وهكذا وصية الأنبياء — عليهم السلام — وواضعي الناموس الذين هم أطباء النفوس للأمم المبعوثين إليها فيما فرضوا في أحكام الدين والشرائع والسنن للناس من اجتناب المحارم والمحرمات والشبهات الممرضة للنفوس المهلكة لها بالانهماك وتجاوز الحد والمقدار في تناولها من غير وجوهها المحلِّلة لها، كل ذلك لكيما تَسلَم نفوسهم من آفات هذه الدنيا الغدَّارة المكَّارة المُهلِكة لأولادها بعد تربيتها لهم، وكما أن الأشخاص لو ساعدوا الطبيب فيما أمر وبيَّن من جهة مأكولاتهم ومشروباتهم في حالة الصحة والمرض يستفيدون وبمخالفتهم ذلك ينحرف مزاجهم، أما الصحيح فإلى المرض، وأما المريض فإلى طول المرض وإلى الهلاك، كذلك ها هنا الأنبياء هم أطباء النفوس وسبب الهدى وطريق المعاش، فمَن مال عمَّا أَمَروا به وانحرف عما وضعوا وبيَّنوا، فقد ضل وأضل عن سواء السبيل.

(٩) فصل في أن الاستغراق في الشهوات يُنسِي الآخرة​

ثم اعلم أن الاستغراق في الشهوات في هذه الدنيا يُنسي الإنسان أمر الآخرة ويشككه وييئسه منها، كما قال قائلهم في هذا المعنى:
هي الدنيا وقد وعدوا بأُخرى

وتسويف الظنون من السوام
وقيل أيضًا في هذا المعنى شعرًا:
خذوا بنصيب من نعيم ولذة

وكلٌّ وإنْ طال المدى يتصرَّم
وقال آخَر وقد كان ساهيًا من أمر الآخرة:
ما جاءنا أحد يُخبِّر أنه

في جنة مَن مات أو في نار
وأشعارهم كثيرة في مثل هذه الظنون والشكوك والحيرة التي وقعوا فيها عقوبة لهم عندما تركوا وصية ربهم، ونصيحة أنبيائهم، واتباع علمائهم والحكماء فيما يدعونهم إليه، ويُرغِّبون فيه من نعيم الآخرة، ويأمرونهم به من الزهد في الدنيا، وينهَوْنهم عنه من الغرور بشهواتها وعاجل حلاوتها.

(١٠) فصل في أن كل مولود لا بد أن تكون درجة طالعه من المشرق​

واعلم أن كل مولود تحت فلك القمر في البَرِّ كان أو في البحر أو في الهواء أو في التراب أو في الماء في وقت ولادته لا بد من أن تكون درجة طالعة من المشرق على أفق تلك البقعة، ولا بد أيضًا من أن يكون كوكب من السبعة السيارة متوليًا على تلك الدرجة الطالعة يُسمى النير، وهما دليل المولود وما تنصرف به الأحوال وتجري به الأمور في مستقبل عمره إلى تمام سنة، ثم إن السنة الثانية يصير التدبير فيها لدرجة أخرى مما يتلوها بالطلوع والمستولي عليه، ثم السنة الثالثة للدرجة الثالثة والمستولي عليها، وعلى هذا القياس يجري الأمر إلى آخر العمر الطبيعي، ويتصرف المولود في الأحوال، وتجري به الأمور بحسب حالات تلك الدرجات والمستولي عليها من الكواكب مذكور، ذلك كله في كتب أحكام المواليد بشرح طويل.
 

أداب الحوار

المرجو التحلي بأداب الحوار وعدم الإنجرار خلف المشاحنات، بحال مضايقة إستخدم زر الإبلاغ وسنتخذ الإجراء المناسب، يمكنك الإطلاع على [ قوانين وسياسة الموقع ] و [ ماهو سايكوجين ]
أعلى