ابو الحسن
طالب الحكمة
- المشاركات
- 81
- مستوى التفاعل
- 132
( فصل بناء أمرهم على التهاون بأمر الأجساد )
التأسي بالسيد المسيح في ذلك ومما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد, فعل السيد المسيح , عليه السلام بناسوته ووصيته للحواريين بمثل ذلك.
ذلك أن المسيح لما بعث في بني إسرائيل فرآهم منتحلين دين موسى مستمسكين بظاهر شريعته يقرأون التوراة وكتب الأنبياء غير قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها فلا يعرفون أسرارها بل يستعملونها على العادة ويجرونها على التقليد ولا يعرفون الآخرة ولا يرغبون فيها ولا يفهمون أمر المعاد ولا يدرون ما فيها غير الدنيا وغرورها وأمانيها ولا يدرون مما يستعملون من أمر الشريعة وسنة الدين إلا طلب الدنيا وليس غرض الأنبياء في دعوتهم الأمم ووضع الشرائع والسنن إصلاح الدنيا فحسب بل غرضهم من ذلك كله نجاة النفوس الغريقة من بحر الهيولى والعتق لها من أسر الطبيعة وإخراجها من ظلمات الأجسام إلى أنوار عالم الأرواح والتنبيه لها من نوم الجهالة والتيقظ لها من رقدة الغفلة وتخليصها من ألم نيران الشهوات الجسمانية المحرقة للأفئدة والتبصير لها من الغرور بالذات الجرمانية المهولة وشفاؤها من الأمراض النفسانية ومن عذاب الحر والبرد والجوع والعطش وألم الأمراض والأسقام وخوف الفقر والتلف والأحزان والأسف وأحداث الزمان وغيظ الأعداء والغم على الأصدقاء وحرقة الإشفاق على الأحباء والأقرباء ومعادة الأضداد ومكايدة الأقران وحسد الجيران ووساوس الشيطان ونوائب الحدثان حالً بعد حال.
فلما رآهم المسيح على تلك الحالة لا فرق بينهم وبين من لا يقر بالمعاد ولا يعرف الدين والنبوة ولا الكتاب ولا السنة ولا المنهاج ولا الشريعة ولا الزهد في الدنيا ولا الرغبة في الآخرة غمه ذلك منهم ورق لهم وحنن على أبناء جنسه وتفكر في أمرهم كيف يداويهم من دائهم الذي استقر بهم وعلم أنه إن وبخهم بالتعنيف والوعيد والزجر والتهديد لا ينفعهم ذلك لأن هذه كلها موجودة في التوراة وما في أيديهم من كتب الأنبياء عليهم السلام فرأى أن يظهر لهم بزي الطبيب المداوي وجعل يطوف في محال بني إسرائيل يلقى واحداً يعظه ويذكره ويضرب له الأمثال وينبهه من الجهالة ويزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة ونعيمها حتى مر بقوم من القصارين خارج المدينة فوقف عليهم فقال لهم: أرأيتم هذه الثياب إذا غسلتموها ونظفتموها وبيضتموها هل تجوزون أن يلبسها أصحابها وأجسادهم ملوثة بالدم والبول والغائط ولون القاذورات؟ قالوا: لا ومن فعل ذلك كان سفيها, قال: فعلتموها أنتم, قالوا: كيف؟ قال: لأنكم نظفتم أجسادكم وبيضتم ثيابكم ولبستموها ونفوسكم ملوثة بالجيف مملوءة قاذورات من الجهالة والعماء والبكم وسوء الأخلاق والحسد والبغضاء والمكر والغش والحرص والبخل والقبح وسوء الظن وطلب الشهوات الرديئة وأنتم في ذل العبودية أشقياء لا راحة لكم إلا الموت والقبر فقالوا: كيف نعمل هل لنا بد من طلب المعاش ؟ قال: فهل لكم أن ترغبوا في ملكوت السماء حيث لا موت ولا هرم ولا وجع ولا سقم ولا جوع ولا عطش ولا خوف ولا حزن ولا فقر ولا حاجة ولا تعب ولا عناء ولا غم ولا حسد بين أهلها ولا بغض ولا تفاخر ولا خيلاء بل إخوان على سرر متقابلين فرحين مسرورين في روح الريحان ونعمه ورضوان وبهجة ونزهة ويسيحون في فضاء الأفلاك وسعة السموات ويشاهدون ملكوت رب العالمين ويرون الملائكة حول عرشه صافين يسبحون بحمد ربهم بنغمات وألحان لم يسمع بمثلها إنس ولا جان وتكونون أنتم معهم خالدون لا تهرمون ولا تموتون ولا تجوعون ولا تعطشون ولا تمرضون ولا تخافون ولا تحزنون, واكثر النصح فيهم , وعمل كلامه في نفوسهم وأراد الله عز وجل بهم خيرا فأسمعهم وهداهم وشرح صدورهم وفتح قلوبهم ونور أبصارهم فشاهدوا ما وصف المسيح عليه السلام مما يشاهده هو بعين البصيرة ونور اليقين وصدق الإيمان فرغبوا فيها وزهدوا في الدنيا وغرورها وأمانيها وخرجوا مما كانوا فيه من عبودية طلب شهوات الدنيا ولبسوا المرقعات وساحوا مع المسيح حيث مر من البلاد.
وكان من سنة المسيح التنقل كل يوم من قرية إلى قرية من قرى فلسطين ومن مدينة إلى مدينة من ديار بني إسرائيل يداوي الناس ويعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ملكوت السماء ويرغبهم فيها ويزهدهم في الدنيا ويبين لهم غرورها وأمانيها وهو مطلوب من ملك بني إسرائيل وغوغائهم وبينما هو في محفل من الناس هُجم عليه ليؤخذ فتجنب من بين الناس فلا يقدر عليه ولا يعرف له خبر, حتى يسمع بخبره من قرية أخرى فيطلب هناك وذلك دأبه ودأبهم ثلاثين شهراً فلما أراد الله تعالى أن يتوفاه ويرفعه إليه اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة ناسوتي وآخذ عليكم عهداً وميثاقاً فمن قبل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غداً ومن لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء فقالوا له: ماهي؟ قال: اذهبوا إلى ملوك الأطراف وبلغوهم مني ما ألقيت إليكم وادعوهم إلى ما دعوتكم إليه ولا تخافوهم ولا تهابوهم فإني إذا فارقت ناسوتي فإني واقف في الهواء عن يمنة عرش أبي وأبيكم وأنا معكم حيث ما ذهبتم ومؤيدكم بالنصر والتأييد بإذن أبي اذهبوا إليهم وادعوهم بالرفق وداووهم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم تقتلوا أو تصلبوا أو تنفوا من الأرض فقالوا: ما تصديق ما تأمرنا؟ قال: أنا أول من يفعل ذلك وخرج من الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى اُخذ وحُمل إلى ملك بني إسرائيل فأمر بصلبه فصلب ناسوته وسمرت يداه على خشبتي الصليب وبقي مصلوبا من ضحوة النهار إلى العصر وطلب الماء فسقي الخل وطُعن بالحربة ثم دفن مكان الخشبة ووكل بالقبر أربعون نفراً وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه فلما رأوا ذلك منه أيقنوا وعلموا أنه لم يأمرهم بشيء يخالفهم فيه ثم اجتمعوا بعد ذلك بثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أنه يتراءى لهم فيه, فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يقتل فنبش القبر فلم يوجد الناسوت فاختلف الأحزاب من بينهم وكثر القيل والقال وقصته تطول.
ثم إن أولئك الحواريين الذين قبلوا وصيته تفرقوا في البلاد وذهب كل واحد منهم حيث وجه: فواحد ذهب إلى بلاد المغرب وآخر إلى بلاد الحبشة واثنان إلى بلاد رومية واثنان إلى ملك إنطاكية واثنان أقاما في دير بني إسرائيل يدعون إلى رأي المسيح حتى قتل أكثرهم وظهرت دعوة المسيح في شرق الأرض وغربها بأفعال الحواريين من بعدهم, فتهاونهم بأمر أجسادهم يدل على أنهم كانوا يرون يعتقدون بقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.
ومن ذلك أفعال الرهبان والذين هم خيار أصحابه وأتباعه, إن أحدهم يحبس جسده في صومعته سنين كثيرة ويمتنع عن الطعام والشراب واللذات واللباس الناعم وملاذ الدنيا وشهواتها كل ذلك لشدة يقينهم ببقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.
التأسي بإبراهيم ويوسف عليهما السلام ومما يدل على أن إبراهيم خليل الرحمن كان يرى هذا الرأي قوله:" الذي خلقني فهو يهدين والذي يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين, رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين".
وهكذا قول يوسف الصديق:" رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ".
أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل أُلحق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خلقا وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب وما شاكلها من الأخلاط الأربعة.
التأسي بأهل بيت نبينا عليهم السلام ما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام كانوا يرون هذا الرأي تسليمهم أجسادهم إلى القتل يوم كربلاء ولم يرضوا أن يتولوا على حكم يزيد وزياد وصبروا على العطش والطعن والضرب حتى فارقت نفوسهم أجسادهم ورفعت إلى ملكوت السماء ولقوا آباءهم الطاهرين محمداً وعلياً والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم في ساعة العسرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه, ولو لم يكن القوم مستيقنين ببقاء نفوسهم بعد مفارقة أجسادهم لما تعجلوا لهلاك أجسادهم وتسليمها إلى القتل والضرب والطعن وفراق لذيذ عيش الدنيا ولكن القوم قد علموا وتيقنوا ما دعوا إليه من الحياة الآخرة والنعيم والخلود فيها والفوز والنجاة من غرور الدنيا وبلائها, فبادر القوم إلى ما تصوروا وتحققوا وتسارعوا في الخيرات وكانوا يدعون ربهم رغباً ورهباً وكانوا من خشيته مشفقين.
فهل لك يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه أن تقتدي بهم وبسنتهم وتسلك مسلكهم وتقصد مقصدهم وتبادر قبل الفوات في فكاك نفسك من أسر الطبيعة وتنجيها من بحر الهيولى وتخرجها من قعر الأجسام وظلمة الأجساد ونيران الشهوات المحرقة والغرور باللذات الجرمانية في جوار الشيطان وتعمل كما يعمل الناس النجباء بأن تصحب إخواناً لك نصحاء وأصدقاء كرماء محبين لك وادين ومواظبين على نجاتك ونجاة نفوسهم وأن ترغب في صحبتهم وتسمع أقاويلهم وتفهم كلامهم بحضورك في مجالسهم وتنظر في كتبهم لتعرف اعتقادهم وتتخلق بأخلاقهم وتتعلم علومهم وتسير بسيرتهم العادلة وتعمل بسنتهم الزكية وتتفقه في شريعتهم العقلية لتحيا كحياتهم الملكية وتعيش عيش السعداء مخلداً أبداً وتتجنب صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لصلاح أمور دنياهم وحياة أجسادهم ودفع المضرة عنها وهم يهلكون نفوسهم وهم لا يشعرون.
التأسي بالسيد المسيح في ذلك ومما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد, فعل السيد المسيح , عليه السلام بناسوته ووصيته للحواريين بمثل ذلك.
ذلك أن المسيح لما بعث في بني إسرائيل فرآهم منتحلين دين موسى مستمسكين بظاهر شريعته يقرأون التوراة وكتب الأنبياء غير قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها فلا يعرفون أسرارها بل يستعملونها على العادة ويجرونها على التقليد ولا يعرفون الآخرة ولا يرغبون فيها ولا يفهمون أمر المعاد ولا يدرون ما فيها غير الدنيا وغرورها وأمانيها ولا يدرون مما يستعملون من أمر الشريعة وسنة الدين إلا طلب الدنيا وليس غرض الأنبياء في دعوتهم الأمم ووضع الشرائع والسنن إصلاح الدنيا فحسب بل غرضهم من ذلك كله نجاة النفوس الغريقة من بحر الهيولى والعتق لها من أسر الطبيعة وإخراجها من ظلمات الأجسام إلى أنوار عالم الأرواح والتنبيه لها من نوم الجهالة والتيقظ لها من رقدة الغفلة وتخليصها من ألم نيران الشهوات الجسمانية المحرقة للأفئدة والتبصير لها من الغرور بالذات الجرمانية المهولة وشفاؤها من الأمراض النفسانية ومن عذاب الحر والبرد والجوع والعطش وألم الأمراض والأسقام وخوف الفقر والتلف والأحزان والأسف وأحداث الزمان وغيظ الأعداء والغم على الأصدقاء وحرقة الإشفاق على الأحباء والأقرباء ومعادة الأضداد ومكايدة الأقران وحسد الجيران ووساوس الشيطان ونوائب الحدثان حالً بعد حال.
فلما رآهم المسيح على تلك الحالة لا فرق بينهم وبين من لا يقر بالمعاد ولا يعرف الدين والنبوة ولا الكتاب ولا السنة ولا المنهاج ولا الشريعة ولا الزهد في الدنيا ولا الرغبة في الآخرة غمه ذلك منهم ورق لهم وحنن على أبناء جنسه وتفكر في أمرهم كيف يداويهم من دائهم الذي استقر بهم وعلم أنه إن وبخهم بالتعنيف والوعيد والزجر والتهديد لا ينفعهم ذلك لأن هذه كلها موجودة في التوراة وما في أيديهم من كتب الأنبياء عليهم السلام فرأى أن يظهر لهم بزي الطبيب المداوي وجعل يطوف في محال بني إسرائيل يلقى واحداً يعظه ويذكره ويضرب له الأمثال وينبهه من الجهالة ويزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة ونعيمها حتى مر بقوم من القصارين خارج المدينة فوقف عليهم فقال لهم: أرأيتم هذه الثياب إذا غسلتموها ونظفتموها وبيضتموها هل تجوزون أن يلبسها أصحابها وأجسادهم ملوثة بالدم والبول والغائط ولون القاذورات؟ قالوا: لا ومن فعل ذلك كان سفيها, قال: فعلتموها أنتم, قالوا: كيف؟ قال: لأنكم نظفتم أجسادكم وبيضتم ثيابكم ولبستموها ونفوسكم ملوثة بالجيف مملوءة قاذورات من الجهالة والعماء والبكم وسوء الأخلاق والحسد والبغضاء والمكر والغش والحرص والبخل والقبح وسوء الظن وطلب الشهوات الرديئة وأنتم في ذل العبودية أشقياء لا راحة لكم إلا الموت والقبر فقالوا: كيف نعمل هل لنا بد من طلب المعاش ؟ قال: فهل لكم أن ترغبوا في ملكوت السماء حيث لا موت ولا هرم ولا وجع ولا سقم ولا جوع ولا عطش ولا خوف ولا حزن ولا فقر ولا حاجة ولا تعب ولا عناء ولا غم ولا حسد بين أهلها ولا بغض ولا تفاخر ولا خيلاء بل إخوان على سرر متقابلين فرحين مسرورين في روح الريحان ونعمه ورضوان وبهجة ونزهة ويسيحون في فضاء الأفلاك وسعة السموات ويشاهدون ملكوت رب العالمين ويرون الملائكة حول عرشه صافين يسبحون بحمد ربهم بنغمات وألحان لم يسمع بمثلها إنس ولا جان وتكونون أنتم معهم خالدون لا تهرمون ولا تموتون ولا تجوعون ولا تعطشون ولا تمرضون ولا تخافون ولا تحزنون, واكثر النصح فيهم , وعمل كلامه في نفوسهم وأراد الله عز وجل بهم خيرا فأسمعهم وهداهم وشرح صدورهم وفتح قلوبهم ونور أبصارهم فشاهدوا ما وصف المسيح عليه السلام مما يشاهده هو بعين البصيرة ونور اليقين وصدق الإيمان فرغبوا فيها وزهدوا في الدنيا وغرورها وأمانيها وخرجوا مما كانوا فيه من عبودية طلب شهوات الدنيا ولبسوا المرقعات وساحوا مع المسيح حيث مر من البلاد.
وكان من سنة المسيح التنقل كل يوم من قرية إلى قرية من قرى فلسطين ومن مدينة إلى مدينة من ديار بني إسرائيل يداوي الناس ويعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ملكوت السماء ويرغبهم فيها ويزهدهم في الدنيا ويبين لهم غرورها وأمانيها وهو مطلوب من ملك بني إسرائيل وغوغائهم وبينما هو في محفل من الناس هُجم عليه ليؤخذ فتجنب من بين الناس فلا يقدر عليه ولا يعرف له خبر, حتى يسمع بخبره من قرية أخرى فيطلب هناك وذلك دأبه ودأبهم ثلاثين شهراً فلما أراد الله تعالى أن يتوفاه ويرفعه إليه اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة ناسوتي وآخذ عليكم عهداً وميثاقاً فمن قبل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غداً ومن لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء فقالوا له: ماهي؟ قال: اذهبوا إلى ملوك الأطراف وبلغوهم مني ما ألقيت إليكم وادعوهم إلى ما دعوتكم إليه ولا تخافوهم ولا تهابوهم فإني إذا فارقت ناسوتي فإني واقف في الهواء عن يمنة عرش أبي وأبيكم وأنا معكم حيث ما ذهبتم ومؤيدكم بالنصر والتأييد بإذن أبي اذهبوا إليهم وادعوهم بالرفق وداووهم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم تقتلوا أو تصلبوا أو تنفوا من الأرض فقالوا: ما تصديق ما تأمرنا؟ قال: أنا أول من يفعل ذلك وخرج من الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى اُخذ وحُمل إلى ملك بني إسرائيل فأمر بصلبه فصلب ناسوته وسمرت يداه على خشبتي الصليب وبقي مصلوبا من ضحوة النهار إلى العصر وطلب الماء فسقي الخل وطُعن بالحربة ثم دفن مكان الخشبة ووكل بالقبر أربعون نفراً وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه فلما رأوا ذلك منه أيقنوا وعلموا أنه لم يأمرهم بشيء يخالفهم فيه ثم اجتمعوا بعد ذلك بثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أنه يتراءى لهم فيه, فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يقتل فنبش القبر فلم يوجد الناسوت فاختلف الأحزاب من بينهم وكثر القيل والقال وقصته تطول.
ثم إن أولئك الحواريين الذين قبلوا وصيته تفرقوا في البلاد وذهب كل واحد منهم حيث وجه: فواحد ذهب إلى بلاد المغرب وآخر إلى بلاد الحبشة واثنان إلى بلاد رومية واثنان إلى ملك إنطاكية واثنان أقاما في دير بني إسرائيل يدعون إلى رأي المسيح حتى قتل أكثرهم وظهرت دعوة المسيح في شرق الأرض وغربها بأفعال الحواريين من بعدهم, فتهاونهم بأمر أجسادهم يدل على أنهم كانوا يرون يعتقدون بقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.
ومن ذلك أفعال الرهبان والذين هم خيار أصحابه وأتباعه, إن أحدهم يحبس جسده في صومعته سنين كثيرة ويمتنع عن الطعام والشراب واللذات واللباس الناعم وملاذ الدنيا وشهواتها كل ذلك لشدة يقينهم ببقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.
التأسي بإبراهيم ويوسف عليهما السلام ومما يدل على أن إبراهيم خليل الرحمن كان يرى هذا الرأي قوله:" الذي خلقني فهو يهدين والذي يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين, رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين".
وهكذا قول يوسف الصديق:" رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ".
أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل أُلحق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خلقا وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب وما شاكلها من الأخلاط الأربعة.
التأسي بأهل بيت نبينا عليهم السلام ما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام كانوا يرون هذا الرأي تسليمهم أجسادهم إلى القتل يوم كربلاء ولم يرضوا أن يتولوا على حكم يزيد وزياد وصبروا على العطش والطعن والضرب حتى فارقت نفوسهم أجسادهم ورفعت إلى ملكوت السماء ولقوا آباءهم الطاهرين محمداً وعلياً والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم في ساعة العسرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه, ولو لم يكن القوم مستيقنين ببقاء نفوسهم بعد مفارقة أجسادهم لما تعجلوا لهلاك أجسادهم وتسليمها إلى القتل والضرب والطعن وفراق لذيذ عيش الدنيا ولكن القوم قد علموا وتيقنوا ما دعوا إليه من الحياة الآخرة والنعيم والخلود فيها والفوز والنجاة من غرور الدنيا وبلائها, فبادر القوم إلى ما تصوروا وتحققوا وتسارعوا في الخيرات وكانوا يدعون ربهم رغباً ورهباً وكانوا من خشيته مشفقين.
فهل لك يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه أن تقتدي بهم وبسنتهم وتسلك مسلكهم وتقصد مقصدهم وتبادر قبل الفوات في فكاك نفسك من أسر الطبيعة وتنجيها من بحر الهيولى وتخرجها من قعر الأجسام وظلمة الأجساد ونيران الشهوات المحرقة والغرور باللذات الجرمانية في جوار الشيطان وتعمل كما يعمل الناس النجباء بأن تصحب إخواناً لك نصحاء وأصدقاء كرماء محبين لك وادين ومواظبين على نجاتك ونجاة نفوسهم وأن ترغب في صحبتهم وتسمع أقاويلهم وتفهم كلامهم بحضورك في مجالسهم وتنظر في كتبهم لتعرف اعتقادهم وتتخلق بأخلاقهم وتتعلم علومهم وتسير بسيرتهم العادلة وتعمل بسنتهم الزكية وتتفقه في شريعتهم العقلية لتحيا كحياتهم الملكية وتعيش عيش السعداء مخلداً أبداً وتتجنب صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لصلاح أمور دنياهم وحياة أجسادهم ودفع المضرة عنها وهم يهلكون نفوسهم وهم لا يشعرون.