سيد الأحجار السبعة
عابر الزمن الثالث
الشمس تشرق كل يوم وتغرب كل مساء، وأنا الآن أمام مكتبي وأمام حاسوبي ذا اللون الأسود والفضي ، وهناك أشخاص يقولون إن 1+1=2 هي حقيقة مطلقة بنفس الوقت الذي يدعون فيه أن "الوعي" ليس حقيقة مطلقة.
هل يمكن التحقق من كل واحدة من هذه "القضايا" باستخدام ذات المنهج المعرفي وذات المعيار ، وذات مصدر الإدراك ؟
هل يمكن إثبات أن " 1+1=2 " عبارة صادقة بنفس المنهج الذي يمكنه التحقق من أن هتلر مات قبل نهاية الحرب العالمية الثانية ؟
هل يمكن إثبات أن " الأرض مسطحة " بنفس المنهج الذي يستخدم في التأكد من أن ترامب فاز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2024 للميلاد ؟
إني الآن أمام مكتبي ، لا أحتاج إلى أكثر من لقطة سريعة للمكتب حتى أطابقها على ما في ذاكرتي لأدرك أنني في نفس المكان الذي أسميه (المكتب الخاص بي) ، ويتطلب الأمر محض رصد صورة واحدة من دون استخدام للمنطق أو الذاكرة لأعلم أن لون الحاسوب الذي أمامي حالياً فضي وأسود..
لكن إذا حاولت أن أثبت أن الأرض مسطحة فسيبدأ الموضوع بالتعقّد والتشعب، فإني لا أدرك شكل كوكب الأرض حسياً بطريق مباشر، لا أرى كل أجزائها في لحظة واحدة، وقد لا يتسنى لي ( لسبب أو لآخر ) أن أستقل مكّوك ، وحتى ولو دخلت إلى مركبة فضائية ستنطلق إلى خارج الغلاف الجوي، فإن المشهد المنظور سيكون من وراء "زجاج المركبة"، وقد يكون من وراء جدارها اصلاً (اعتماداً على كاميرات معينة) وهذا لوحده كفيل بطرح أسئلة تشكيكية.
يمكن إثبات فوز ترامب بالانتخابات بسهولة إذا شاهدتَ آخر الأخبار، لكن هل يمكن إثبات موت هتلر بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الاعتماد على الأخبار ؟ هناك فاصل زمني طويل جداً بين تحقيقك في ذلك الحدث وبين وقوعه، ولا تمتلك أدلة ملموسة على أحد الفرضيات، مثل الوثائق الصادرة من دولة ألمانيا قبل إعلان هزيمتها، أو شهادة أشخاص ينتمون فعلياً للحزب النازي.
أما البحث في 1+1=2 فسيتحول بك من مستوى إلى آخر.
قد تبدو تلك العبارة حقيقة مطلقة لأكثرية الناس، ولكن أكثرية الناس لا يدركون معناها الحقيقي فضلاً عن أنهم يستخدمون طريقة غير منهجية في إثباتها.
الحجة التي سيستخدمها أي إنسان تقريباً لإثبات أن 1+1=2 هي إحضار تفاحتين خيالياً أو واقعياً أمام المشكك ثم وضع واحدة في جهة والأخرى في جهة ، ثم جمعهما في جهة واحدة ، مما يعني برأيه أن مجموع تفاحة وتفاحة هو تفاحتين. عادة ما يتم استبدال التفاح بالأشياء المتاحة ، سواء عنب أو إجاص أو خوخ أو أي نوع آخر من الفاكهة.
_ ما تعنيه عبارة 1+1=2 يتعلق بما يعنيه 1 وما يعنيه + و= ، وهذه الأمور غير موجودة في العالم الواقعي بكل فاكهته وأدواته، إذ ما الذي يجعل التفاحة قابلة للمساواة بينها وبين "1" ؟ ولماذا تعتقد أن وضع تفاحتين في نفس المكان هو معنى عملية الجمع (+) ؟
إن وضع تفاحتين في نفس المكان هو عملية "ربط منطقي" وليست عملية جمع رياضي، لأن اعتبارهما مجموعاً هو احد الاحتمالات الممكنة للعلاقة الرابطة بينهما، ولكنها أيضاً قد تحمل معنى التخيير (إما أو) أو معنى النفي، لأن التفاحة الأولى ليست متطابقة زمكانياً مع الثانية.
ما الذي يجعل التفاحة تعني الرقم واحد على وجه التحديد ؟ إن التفاحة مكونة من آلاف الأنسجة وملايين الخلايا، وعدد هذه الخلايا يتغير كل لحظة، الفاصل بين التفاحة والعالم الخارجي نفسه يتغير كل لحظة، هناك المزيد من الذرات تذهب وتضاف للتفاحة في كل لحظة تمر، وهي آخذة بالذوبان في المحيط نتيجة لتفاعلها الزمني مع العالم.
ما الذي يجعل التفاحة موضوعاً قائماً بحد ذاته ؟ إنه بلا شك نوع من "التحديد" الذي تحتويه صورة التفاحة ضمنياً، هناك ما يميزها عن العالم من جهة، ويويحد مكوناتها الداخلية من جهة أخرى، وهذا التحديد يصنع كائناً واحداً اسمه "هذه التفاحة" وبدون كلمة "هذه" فلن تكون هناك تفاحة محددة، لأن كلمة "التفاحة" تشير إلى كل أنواع التفاح وكل تفاحة كانت وستكون، وتشير إلى "نوع التفاح" و"وجود التفاح" في الكون.
ما يجعل التفاحة كائناً واحداً هو "التحديد في الزمكان \ هنا والآن"، ووجود تفاحتين محددتان زمكانياً هو وجود 1 , 1 ، أما العلاقة التجميعية + فهي تعبير عن جمع كائنين محددين وجودياً بحيث يستحيل اتحادهما في كائن واحد، مع وجود رابطة خارجية تبقي على فردانيتهما، وهذه الرابطة تجمعهما بطريقة معينة، ومعنى الجمع رياضياً هو أن "القيمة الكمية" الناتجة عن ارتباط كائنين منفردين تساوي مجموع القيمة الكمية لكل واحد منهما على حدى، والقيمة الكمية الخاصة بتفاحتين هي 2 من التفاح، حين يكون معيار الكم هو "عدد الموضوعات التي تنتمي إلى نوع التفاح"
وحدة النوع تسمح بالتعبير عن العناصر كمياً (بالأرقام) ، استقلال العنصر يسمح باعتباره قابلاً للرقمنة (عادة يأخذ القيمة 1) ، حيثية الارتباط بين العناصر تعطي العلاقات الممكنة ( الجمع - الطرح ...).
عبارة 1+1 = 2 تعني أن اجتماع عنصرين محددين مستقلين ينتميان لنفس الفئة بالنسبة لوسط معين ينتج قيمة كمية تعادل مجموع قيمة كل منهما لوحده، وبما أن معيار القيمة هو الانتماء للنوع فإن مجموع العنصرين يساوي تكرار عنصر واحد من نوعهما.
أولاً ... هذه العبارة ليست بسيطة بالطريقة التي اعتاد الناس على فهمها من خلالها، والمعاني التي تحملها مختلفة عن المعاني التي يتعلمها الأطفال في المدارس، والبالغون في الجامعات.
ثانياً ... منهج إثبات صدق هذه العبارة بعيد جداً عن استخدام الفاكهة والأدوات المنزلية وكرات الدحل ، يمكن للطالب أن (يفهم) معنى 1+1=2 بشكل بسيط ومجمل من خلال ضرب الأمثلة، ولكن ضرب الأمثلة الجزئية جداً على قاعدة كونية، لا يمكن أن يثتبها.
مهما كان عدد المرات التي ستجمع فيها عناصر تنتمي لنفس النوع معاً بطريقة نموذجية فلن يكفي ذلك حتى تثبت أن "قيمة مجموع العناصر تعادل قيمة تكرار العنصر بنفس عدد العناصر الداخلة في المجموع" وهو ما تعنيه عبارة 1+1 = 2 ، في العالم المادي لا يوجد قدرة على "العزل المطلق" لعنصرين ينتميان لنفس النوع في بيئة ما ، لا يوجد إمكانية لعزل التأثيرات ، تقسيم العالم إلى فئات (مثل التفاح والإجاص والأمريكان) سيطرح اسئلة حول معيار التقسيم ، هل هو قرار بشري أم خاصية كونية لأشياء ؟ عملية التحديد ( هذه تفاحة واحدة ) لا تنطبق على أكثر أنواع الكائنات المادية ، لا يمكنك أن تقول مثلاً : هذه غيمة واحدة ، هذا عصير واحد ، هذا ماء واحد ، هذا غاز واحد ..... وغياب القدرة على تحديد أغلبية الكائنات المادية يجعل عملية جمعها تؤدي لنتائج غريبة الأطوار، فمهما كان عدد الغيوم المجموعة فالناتج هو غيمة واحدة ، والسبب هو أن عملية الارتباط بين الغيوم انصهارية ، وبالتالي ليست جمعاً بالطريقة الرياضية ، ربما عدد ذرات الغيوم يمكن جمعه رياضياً، ولكن ليس عدد "الغيوم" وما يحدث هو انصهار واندماج ، وليس تجميع.
هذه بعض الصعوبات التي تعيق إقامة تجريب نموذجي مادي على عبارة (1+1=2)
المشكلة الأكبر هي أن هذه العبارة تضع متطلبات عالية جداً لإثباتها ، إنها لا تعني أن جمع عنصرين ماديين معاً سيؤدي إلى تكرار عنصر النوع مرتين ، إنها لا تعني أن جمع تفاحة مع أخرى = تفاحتين ، ولا أن جمع أمريكي مع آخر يساوي أمرييكين ، بل تعني ، أن العلاقة الرابطة بين عناصر النوع المحددة هي علاقة "تكوينية" مصدر وجودها هو "نظام بناء الكون" وليس أي مصدر آخر، مثل التخمين أو الاستقراء أو التجربة البشرية.
1+1 = 2 حقيقة مطلقة ، تعني أن بناء الكون يستدعي صدق هذه العلاقة ، بحيث تنطبق على كل رابطة ذرية فيه، لأنها "جوهرية الوجود" بالنسبة لكل موضوع مادي، وهذا ينقل الأمر فوراً إلى نقاش "حقيقة الوجود الجوهري" للعالم المادي.
أرغب أن تتذكر ما قرأته للتو دائماً فقط من أجل أن تدرك كم هو خاطئ ومضلل التعامل مع القضايا على أنها (حقئق بديهية) لمجرد أن الحياة العلمية تستدعيها أو أن السواد الأعظم من البشر يرفض الوقوف عليها والتحقيق فيها.
وما الذي جعل عدداً كبيراً من فلاسفة الرياضيات يجربون البرهنة على استحالة صدق هذه القاعدة، وبالنسبة للإنسان العادي فإنه قد لا يلاحظ أن "ما تستند إليه" قاعدة 1+1=2 في المعرفة البشرية لا يزال حتى هذه اللحظة هو "المنطق الرياضي" وليس "المنطق الصوري" ولذلك فهي تتبع قاعدة الاحتمالات ، ولأن رصد احتمال نفيها معدوم في التجربة الإنسانية العامة عبر العصور فهي غير قابلة للتكذيب، أي أنها تمثل الاحتمال المثبت فعلياً على امتداد الرصد الإنساني، ولكنه رغم ذلك.. ليس الاحتمال الوحيد.
طالما أننا نشير إلى كل واحدة من القضايا السابقة بكلمة (الحقيقة) فلابد أن نقبل أن هناك عدة أنواع للحقيقة، أو عدة مستويات، أو عدة أبعاد...
هناك الحقائق المحددة (المحلية) التي لا تحتاج إلى أكثر من الرصد المادي بالحواس الجسدية، مثل حقيقة ما تراه أمامك (هنا) والآن، غالباً أنك الآن ترى أو تسمع هذا الكلام، وهذه الحقيقة توجد ضمن نطاق زمكاني محدد ومؤقت، ولا يمكن تعميمها، فإنك لا ترى دائماً حاسوبك، أو بيتك، أو موقع سايكوجين، إنه ليس (العالم) بل هو (جزء) من العالم.
هناك نوع آخر من الحقائق أو القضايا يعطي أحكاماً عامة، فهو غير مقترن بلحظة معينة من الزمان أو موقع واحد من المكان، لكنه صحيح وواقع بالنسبة لجميع الأزمنة والأمكنة، مثلاً، عبارة 1+1=2 يفترض أنها صحيحة دائماً (لأنها حسب الرصد البشري قضية واقعية في كل التسجيلات والملاحظات عبر نطاق التاريخ الإنساني وفي كل مكان وطأته قدم الإنسان أو رأته عيناه).
إن الطريقة التي يمكن من خلالها الكشف عن حقائق محددة هي "الإدراك الحسي المباشر" لأن الحقيقة المحددة تكون صادقة في مكان محدد وزمان محدد، والعالم المادي لا يحتوي إلا على حقائق محددة، والإدراك الحسي لا يكشف إلا حقائق محددة، فإذا كانت السيارة زرقاء اليوم فهذا لا يثبت أنها زرقاء غداً، ولا يمكن التحقق من ذلك إلا عندما يأتي يوم الغد، ولا يمكن التحقق من أنها كانت زرقاء البارحة إلاإذا تمت مشاهدتها أو تصويرها أو توثيق لونها بطريقة ما.
المحدودية هي خاصية جوهرية للموضوعات المادية، والإدراك الحسي الجسدي يستطيع التعامل مع الموضوعات المادية لأنها محددة في الزمكان، تماماً كمنافذ الحواس الخمس، أي أن هناك نوعاً من "التناظر الهندسي" بين الحواس والمحسوسات يسمح بإدراك موضوعات العالم المادي حسياً.
القضية 1+1=2 تتكون من علاقة بين كائنات ليس لها خصائص محددة، الرقم 1 ليس له لون معين أو شكل معين أو طعم معين أو رائحة معينة، وهذا يعني أنه غير محسوس مادياً، وقابليته للتجرد عن الطبيعة المحسوسة تعني أنه لا يمتلك تأثيراً محدداً في الزمكان، ولا يمكن تمثيله على نقطة زمكانية محددة، ولا يتناظر هندسياً مع الجسم الإنساني وحواسه، فهو لا ينتمي إلى عالمه.
إذن كيف تعرف الإنسان على هذا النوع من الوجود (الأعداد والأمور المجرّدة) ؟ ما هي الأداة التي استخدمها في إدراك وجود تلك الكائنات ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يتحقق من صدق قضايا لا تتعلق بعالمه المادي ؟
إن قابلية الحساب هي صفة جوهرية عامة تحكم بناء جميع المواد، تستدعيها طبيعة المادة المكونة من "كثرة" من العناصر والعلاقات، كل موضوع مادي يمكن ملاحظة حضور الأعداد في وجوده عندما يتم إدراك وجوده كعنصر ضمن "العالم"، دون عزله عن باقي الموجودات، ودون عزله عن "الخلفية الكونية" والعلاقة التي تربط بين الموضوع وبين الخلفية الكونية التي يوجد فيها ويُعرَف من خلالها وتحكمه هي علاقة (الانتماء الوجودي) حيث أن المكتب عنصر ضمن "الغرفة" وهي عنصر ضمن المنزل، والمنزل عنصر ضمن المجرة والمجرة عنصر ضمن الكون، والعالم، والمكان، والزمان، والحياة، والوجود.
فهم الموضوعات على أنها "عناصر من فئات" يساعد على إيجاد قاعدتها الوجودية، لو أنك اعتمدت فقط على الانطباع الحسي المادي لما استطعت الوصول إلى معاني مجرّدة مثل "العدد واحد" أو أحكام عامة مثل (1+1=2).
إن 1+1=2 لا تتحدث عن العالم المادي، بل عن "القاعدة التي تؤسس العالم المادي" والتي تنتمي إليها جميع الموضوعات المادية، وهذه القضية تدعي أنها صادقة من منطلق قاعدة العالم، وهذا يعني أننها ستكون صحيحة دائماً في كل زمان ومكان.
وسواء كانت 1+1=2 أو لا، فإن ما تحاول هذه القضية مناقشته هو حكم يتعلق ب"قاعدة العالم" والتي تسمى بالوجود المجرّد.
جميع قضايا المنطق الصوري (مثل قضية امتناع اجتماع النقيضين أو أن الكل أكبر من أحد أجزائه) والمنطق الرياضي (تعيين احتمالات الصدق الممكنة للقضايا حسب العلاقات المتاحة) تخص الوجود المجرّد، الذي لا تسكنه الكائنات المتشخصة والمحددة ضمن نطاق معين في الزمكان.
جميع القضايا الهندسية والرياضية تتحدث عن إقليم معين من الوجود المجرّد.
جميع القضايا الدينية واللاهوتية والفلسفية والميتافيزيقية تتحدث عن الوجود المجرّد.
القضايا السابقة تخص المجال الوجودي الذي ينبعث منه العالم المادي، الوجود الحر، الذي لا يقيده شيء من التشخص والتحديد في الزمكان، ولا يتكون من "مجموعة نقاط محدودة"، ومهما كانت نوعية تجليه، وبغض النظر عن ما يعنيه حقاً وما يتجلى عبر آفاقه، فلا يمكن التعرف على أي شيء منه بطريقة الحواس المادية، وإذا كان فيه وعي فلن تستطيع التعرف إليه أو التواصل معه من خلال الوسائل الحسية التقليدية.
إن الحقيقة التي تمثلها عبارة 1+1=2 هي حقيقة تجريدية، ويمكن أن نسميها ب"حقيقة عامة" أو "حقيقة كلية" وهو الاسم الدقيق، فهي تصف حكماً كلياً يتعلق بقاعدة بناء الكون، وليس بحدثية محددة تحققت ضمن نقطة معينة في زمكانه.
وعلى عكس الطريقة التي يمكن من خلالها التحقق من صدق قضية محددة في الزمكان، من خلال المشاهدة الحسية الموضوعية، فإن التحقق من قضية عامة يحتاج إلى التحقق من صدق انتمائها إلى "الوجود الكلي" واتصفاها بالكلية مما يسمح بالتعميم.
وقبل ذلك لابد من إدراك اتصال الوجود المادي بالوجود الكلي، من خلال تجريد مشهد المادة عن صفاتها الحسية والبحث عن صفاتها العامة، سينشأ شيء يشبه الإحساس، ولكنه غير موضوعي، ولا يمر عبر الجسد، لكن يكشف الطبيعة المجرّدة والكلية وراء المادة.
هكذا أصبح لدينا حقيقتان : حقيقة محددة ، تصف حكماً خاصاً ينحصر صدقه ضمن حدود الزمكان المشاهد، وحقيقة كلية تصف حكماً عاماً ينطبق على كامل الزمكان الكوني، وربما على ما وراءه.
وبينما يكون منهج التجربة والمشاهدة المادية مناسباً للتحقق من القضايا الجزئية المحددة، فإن محدودية الحواس من جهة، ولامادية الحقائق الكلية من جهة أخرى، يمنع استخدام المنهج السابق في التحقق من القضايا الكلية، والمنهج الذي يسمح بالتحقق من صدق قضية كلية هو إدراك مدى تطابقها مع المستوى الكلي، من خلال وجود مقدمات تصف الأحكام الصادقة في ذلك العالم، وتستدعي الأحكام التي يتم السؤال عن مدى صدقها، أي أن معرفة صدق قضية 1+1=2 لا تبدأ من التحقق من 1+1=2 ولكن تبدأ من إيجاد حقيقة أولية يمكن من خلالها استنتاج أن 1+1=2 صادقة بالنسبة لكامل الوجود، أي أننا نسعى إلى الوصول إلى إدراك القاعدة التي ينبني عليها الوجود ثم نقيس عليها 1+1=2 لنعرف هل هي صادقة كحكم كلي أم لا.. هذا المنهج يسمى "البُرهان".
وقد لا يبدو الأمر واضحة في البداية ولكن قضية 1+1=2 تدعي أكثر من صدقها على العالم المادي، أي أنه حتى ولو كانت صادقة بالنسبة لكامل الزمان والمكان وتم التحقق من ذلك استقرائياً فهذا لا يثبتها، لأنها تريد القول "إن قاعدة الوجود" تستدعي أن يكون 1+1=2.
ولكن هل كل حقيقة كلية هي حقيقة "مطلقة" أم هناك كليات لا تنطبق إلا على مجالات وجودية محددة ؟
إن قضية 1+1=2 ، إذا كانت صادقة بالمعنى الكلي، فقد تنطبق على مجالات الوجود التي تحكمها أنظمة الأرقام الطبيعية والتقليدية، لكن ليس بالضرورة أن تكون هذه المجالات التي تحكمها هذه الأنظمة هي "كامل مجالات الوجود" ... هنا يبدأ ظهور الفرق بين الحقيقة الكلية والحقيقة المطلقة.
الحقيقة المطلقة هي حقيقة صادقة بالنسبة لجوهر الوجود، وحكمها ينطبق على كامل مجالات تجليه، وهناك من الوجود مجالا لا تحكمها الأرقام أصلاً ولا العلاقات المنطقية.. مثل مجال اللاهوت ومجال الوعي الحيوي.. على هذا النحو، الحقيقة المطلقة تعرف من خلال طريقة مختلفة ولها منهج خاص آخر...