ع
عضو محذوف 129
زائر - عضو سابق
قصة أسطورة 1
الوردة + الصليب
أكرم أنطاكي
و
ديمتري أڤييرينوس
" من الذي زفَّ الورودَ إلى الصليب؟"
– ڤولفغانغ فون غوته، "الأسرار" (قصيدة باطنية غير منتهية)
"وكنتَ تعلِّم الآخرينَ في أمور تجهلها..."
– أنسي الحاج
1. بلا مقدِّمات
سنتناول في هذه المحاولة قصةً من نوع خاص. سنحدثكم عن موضوع من أكثر المواضيع غموضًا في التاريخ الباطني لأوروبا وللإنسانية بعامة: قصة "جمعية" يقال إنها وُجدت، ونُسِبَتْ إليها كتابات، وكُتِبَ حولها الكثير، كما نُسِبَ إليها عددٌ من خيرة فلاسفة هذا العالم وعلمائه وأدبائه. لكن، في الوقت نفسه، ليس في وسع أحد إلى الآن، ولن يكون في وسع أحد في المستقبل، أن يثبت في دقة حقيقة وجودها و/أو صحة ما و/أو مَن يُنسَب إليها. فالموضوع مازال، إلى يوم الناس هذا، إشكاليًّا من حيث "واقعيته"...
لأن هذه القصة أسطورة، كما قال بعضهم ومازال يردد. وهذا صحيح ربما، ومنطقي إلى حدٍّ كبير. فهي، كما يقال، أسطورة اخترعها بعض النوابغ من العظماء المستورين في عالمنا – قصة ذكية، جميلة، ومحكمة في ترابطها وعمقها، إلى حدِّ أنْ صدَّقها الكثيرون بعيد اختراعها، وباتوا يتعاملون معها كحقيقة وكواقع قائم، كان ولم يزل...
لأنها واقع، كما قال بعضهم الآخر ومازال يردد – وهذا صحيح أيضًا ربما، ومنطقي أيضًا إلى حدٍّ كبير: صحيح من خلال عمق الأثر الذي تركتْه هذه الجمعية–الفكرة التي لم تأتِ من فراغ؛ ومنطقي لأن ما نُسِبَ إليها من كتابات كان ومازال يستحق عميق التأمل، كما ولأن مَن نُسِبَ إليها من أشخاص لا يمكن لنا المرورُ بهم مرور الكرام بأيِّ شكل من الأشكال. لذلك...
سنتناول في محاولتنا المشتركة هذه قصة هذه "الأسطورة الواقعية" إن شئتم، أو هذا "الواقع الأسطوري" إن لم تشاءوا، داعين كلَّ مَن يهمه الأمر، إلى التفكر والتأمل، بعينَي عقله وقلبه، فيما تطرحه من آفاق أمام إنسانيتنا الحالية.
وهذه القصة، الواقعية وغير الواقعية في الوقت نفسه، الحقيقية وغير الحقيقية في آنٍ معًا، هي قصة ما عُرِفَ بأخوية الوردة + الصليب[1].
2.في التأريخ والقضية
لأن القضية – وهي فعلاً "قضية" كما قدَّمها لنا المؤرخون – ولدت ما بين عامَي 1614 و1616، حينما صدرت في مدينة كاسل الألمانية ثلاثة مؤلَّفات قيل إن صاحبها قس لوثري من مدينة ستراسبورغ يدعى يوهان ڤالنتينوس أندريا[2]. وهذه المؤلفات كانت:
– "الإصلاح الشامل العام للعالم بأسره"، ويليه الـFama fraternitatis des löblichen Ordens des Rosencreutzes، أي "سيرة أخوية الوردة + الصليب الغراء"، الموجهة "إلى جميع علماء أوروبا وزعمائها"، الذي صدر في العام 1614: وهو يلخص سيرة حياة شخص يُدعى كريستيان روزنكرويتس Christian Rosenkreutz.
– والـConfessio fraternitatis R.C.، أي "إفشاء عقيدة أخوية الوردة + الصليب"، الذي صدر في العام 1615: وهو عبارة عن دفاع مدبَّج ضد الاتهامات بالهرطقة والتدخل السياسي الهدام التي وُجِّهَتْ إلى الأخوية. والكتيب يَعِدُ بالكشف عن أسرار رائعة، وبالتنعم بالصحة والشباب والمعرفة، وبنوال القدرة على الاتصال بالأرواح العليا، إلخ، وبأن الله سوف يعيد إلى البشر، قبل حلول يوم الدين، نور آدم الأول وبهاءه اللذين أضاعهما بسقوطه. ويذكِّر النص بالأخويات الخيميائية العديدة المنتشرة في القرن الخامس عشر ويعيد إلى الأذهان جميع المباحث الروحية الهامة آنذاك: سلطان الروح على المادة، التجدد الداخلي بالروح القدس، إلخ.
– والـNoces chymiques de Christian Rosenkreutz en l’an 1459، أي "عرس كريستيان روزنكرويتس الخيميائي في العام 1459"، الذي صدر في العام 1616 بالألمانية.
وهي عبارة عن ثلاثية باطنية تتحدث عن "أخوية" افتراضية يقال إن مؤسِّسها كان فارسًا أسطوريًّا يدعى كريستيان روزنكرويتس، الذي يوحي اسمُه ولقبُه، على التوالي، بمسيحيته أولاً، وبما سيُعرف من بعدُ اسمًا لهذه الجمعية، ثانيًا.
وقد أدى نشرُ هذه الكتب السرَّانية الثلاثة، إذا ما قيس إلى الظروف التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك – وأهمها التمرد اللوثري على الكنيسة الكاثوليكية – إلى ازدهار واسع للمناحي الصوفية والباطنية في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وإنكلترا. لكن الأمور لم تكن قطعًا بهذا الوضوح ولا بتلك البساطة...
حيث سرعان ما تعرضت هذه الأخوية إلى حملة هجومية تشويهية واسعة على يد أولئك الذين لم تَرُقْ لهم مفاهيمُها. وعلى رأسهم كانت، طبعًا، أغلبية الجمهور المسيحي بقيادة اليسوعيين والكنيسة الكاثوليكية. وكان هذا، ضمن الأجواء السائدة آنذاك، منطقيًّا ومفهومًا أيضًا.
ففي صباح يوم من أيام شهر آب من العام 1623، مثلاً، كما نقل لنا غبرييل نوديه – وهو كاتب وناشر من تلك الأيام – في كتيِّبه مدخل لفرنسا إلى حقيقة تاريخ إخوان وردة الصليب[3]، استيقظ الباريسيون ليقرؤوا منشورات أُلصِقَتْ على عجل على جدران أحيائهم وساحاتهم، جاء في بعضها، على سبيل المثال:
إنَّا، نحن معتمَدو المجمع الرئيسي للوردة + الصليب، المقيمون، بمشيئة العليِّ الذي تتوجَّه إليه توجهًا منظورًا وغير منظور قلوبُ أبرار هذه المدينة، جئنا لنبيَّن ونعلِّم، من دون كتب وبلا مواربات كلامية، لغات جميع البلدان التي نرغب في الإقامة فيها، من أجل أن ندرأ خطيئةَ الموت عن إخوتنا في البشرية.[4]
كما جاء في بعضها الآخر، وفقًا لنشرة أخرى كُتِبَتْ بالأسلوب نفسه ونُقِلَتْ عن كتيِّب مغفل التوقيع يربط هذه الأخوية والمنتسبين إليها بالشيطان، بعنوان التحالف المروع بين الشيطان واللامرئيين المزعومين[5]:
إنَّا، نحن معتمَدو مجمع الوردة + الصليب، نبلِّغ جميع الراغبين في الانتساب إلى جمعيتنا أننا سنلقِّنهم، بمعرفة كاملة من العلي، ذلك العهد الذي يُعقَد اليوم عليه مؤتمرُنا، وأننا سنجعل منهم، كما نحن تمامًا، مرئيين–غير مرئيين أو غير مرئيين–مرئيين معًا، كما أننا سننقلهم إلى جميع البلدان الأجنبية التي يرغبون في زيارتها. لكن، للتعرف على هذه العجائب، ننبِّه القارئ أيضًا إلى واقع أننا نقرأ أفكاره. لذلك، إنْ راودتْه فكرةُ رؤيتنا بدافع من الفضول فقط، فإنه لن يتمكن من الاتصال بنا على الإطلاق. أما في حال حملتْه إرادتُه على تدوين اسمه في سجلِّ جمعيتنا، فإننا، نحن الذين نقرأ الأفكار، سنبيِّن له صدقَ ما نعد به، من دون إفشاء مكان إقامتنا، لأن الأفكار، حين تتَّحد مع الإرادة الحقيقية للقارئ، كفيلة بأن تعرِّفنا إليه كما هي كفيلة بأن تعرِّفه إلينا.[6]
ويتابع هذا الكتيب، فيبيِّن أيضًا أمورًا أخرى، في جملتها أن "عدد اللامرئيين هو 36" وأنهم "موزعون حول العالم على مجموعات تتألَّف كل واحدة من ستة أشخاص"، وأنهم أيضًا (أي اللامرئيين) "عقدوا جمعية عامة يوم 23 حزيران 1623 في مدينة ليون الفرنسية"، وأن هذا الاجتماع كان بقيادة "ساحر ومستحضر أرواح" nécromancien شيطاني، وفيه تمت مُسارَرةُ مَن التحق بالجمعية من مريدين جدد، إلخ[7].
ونسجل هنا، ضمن السياق نفسه، حدة الهجوم الذي تعرضت له "الأخوية" آنذاك من قبل الكنيسة واليسوعيين، كالأب غولتييه، مثلاً وليس حصرًا، الذي قال في كتاب له بعنوان جدول زمني لحال المسيحية منذ ميلاد يسوع المسيح، في فصل خصَّصه للأخوية، إن جمعية الوردة + الصليب هي مجرد
[...] ملَّة سرية، موجودة منذ فترة في ألمانيا، ولا نملك حولها بعدُ ما يكفي من المعلومات. وهذه الملَّة تبث سمومها سرًّا، متجنبةً أن يتم التعرف إليها.[8]
مما يؤكد أن هذه الجمعية لم تقابَل بالترحيب في الأوساط الكاثوليكية الأوروبية حينئذٍ، وأنه، على الرغم من كلِّ ما كُتِبَ حولها، لم يُعرَف عنها الشيء الكثير. لذلك، ولتلمُّس بعض الحقيقة في الأمر، ربما كان من الأجدى التمعن قليلاً فيما كتبتْه هذه "الجمعية" عن نفسها، سواء بقلم القس يوهان فالنتينوس أندريا Johann Valentinus Andreæ أو بقلم سواه[9]. ونقصد، أولاً وقبل كل شيء، الكتب الثلاثة المنسوبة إليها، مبتدئين بـ...
3. Fama fraternitatis أو "سيرة أخوية الوردة + الصليب الغراء"
والسيرة أو الـFama، كما سندعوه ضمن سياق بحثنا، هو رسالة مفتوحة إلى "القلوب الطاهرة"، تبدأ بعبارة تقول:
إنَّا، نحن أخوة أخوية الوردة + الصليب، نهدي سلامنا، ومحبتنا، وصلواتنا إلى كلِّ مَن سيقرأ قصتنا هذه بروح مسيحية.
ثم، بعد مقدمة وعرض عام لمعرفة العوالم الكبرى والصغرى، تروي لنا قصةَ مؤسِّسها الأسطوري، الأخ الفارس والروحاني الكبير، الذي لا تذكر اسمه، إنما تكتفي فقط بتعريفه بحرفَي C.R.، الذي كرَّس حياته كلَّها لمحاربة الشر في عالمنا – هذا الفارس الذي ولد في العام 1378 لأسرة فقيرة شريفة الأصول، وعُهِدَ به في سنِّ السادسة إلى دير تعلَّم فيه بعض اليونانية واللاتينية وتلقَّى فيه أيضًا بعض مبادئ السحر[10]. وهذا التعليم، إن لم نقل هذه المُسارَرة الأولى، دفعته عند بلوغه سنَّ السادسة عشرة إلى القيام برحلة حج إلى الأرض المقدسة برفقة صديقه الأخ P.A.L. الذي لم يكمل الرحلة معه، إنما توفي على الطريق في جزيرة قبرص، الأمر الذي أجبر صاحبنا على متابعة رحلته وحيدًا. وإذ وصل الشاب بمفرده إلى الشرق الأدنى، سعى إلى التواصل مباشرة مع حكماء "دَمْكَر" في اليمن. ثم اتفق له أن مرض، مما اضطره إلى اللجوء إلى دمشق للتداوي. وفي دمشق، عالجه أطباؤها، واختلف إلى حكمائها الذين تعلَّم على أيديهم أصول الحكمة والعلوم، وبقي فيها ثلاث سنوات، قام إبانها بترجمة كتاب العالم Liber mundi، الذي أعطاه منظورًا شموليًّا إلى الكون. ثم، بعد أن تلقَّى مسارَرته في دمشق، سافر من الشرق الأدنى غربًا إلى مصر، ثم إلى ليبيا، ثم مضى إلى مدينة فاس المغربية التي عُرِفَتْ أيضًا، شأنها شأن دمشق، بعلمائها وحكمائها، فبقي فيها سنتين مكَّن إبانهما تعليمه الباطني على أيديهم، تلك التعاليم التي عمَّقت فهمه لمعتقده الداعي إلى وضع أفضل الأسُس لعالم قائم على التناغم. وما أوصلنا إلى استنتاج كهذا هو واقع أن الـFama يتكلم بكلِّ صراحة، مقارنًا بين ما كانت عليه في تلك الأيام أوضاعُ السرَّانيين في الغرب من تشتت وتكتُّم وتنافُر فيما بينهم وبين أوضاعهم في الشرق، حيث كانت المعرفة الحق تُمنَح لكلِّ مَن يطلبها بإخلاص ويستحقها عن جدارة، مما أوحى إليه بفكرة إنشاء "أخويته".
ثم يحدثنا الـFama، الذي يمكن لنا اعتباره بحق إنجيل[11] جماعة الوردة + الصليب، عن مسار "الأب" C.R. الذي عُهِد إليه أن يعود إلى أوروبا ليؤسِّس هناك أخوية سرانيَّة الغاية منها نشر الحكمة المشرقية في "بلاد النصارى"، فتوجَّه أول ما توجه إلى إسبانيا التي لم تقبل به، ففشل في تأسيس أخويته ونشر دعوته هناك؛ مما دعاه إلى العودة إلى بلده ألمانيا، حيث عكف ناسكًا خمس سنوات من العزلة، ثم، بمعونة أصحابه، وخاصة منهم ثلاثة إخوة لا يذكرهم الـFama إلا بأحرف أسمائهم الأولى[12]، تم وضع أسُس ذلك "البنيان الجديد للروح القدس"، وتقرَّر توجيه الدعوة إلى مزيد من الإخوة. فكان في تلك الفترة تدوين ما عُرِفَ بـكتاب رغبات الإنسان، وكان إرسال الإخوة الذين شكلوا مجامعهم السرَّانية في مهمات حول العالم بهدف التعلم، كما كان وضع "الأب" C.R. "دستور" أخويته الذي يمكن لنا تلخيصه بما يلي:
1. ينذر الإخوة البتولية والتخلِّي عن الشهوات الجسدية وعن كلِّ مستقَرٍّ ثابت.
2. تكون الصنعة الوحيدة التي يمتهنها الإخوة علنًا هي الطبابة وشفاء المرضى بلا مقابل.
3. يتكيف الإخوة في كلِّ مكان يقيمون فيه مع عادات البلد وتقاليده ويلبسون أزياءه.
4.يجتمع الإخوة كلَّ عام في اليوم ج. في هيكل الروح القدس في المكان الذي يحدِّده لهم الروح.
5.يختار كل أخ خليفته في حال حضرتْه الوفاة.
6. تكون الوردة + الصليب شعارًا ورمزًا للأخوية.
وفي عامه السادس بعد المائة، توفي الأب روزنكرويتس في Engelland، كما يصرح النص الألماني الأصلي. واسم المكان يعني حرفيًّا "بلاد الملائكة"، وهو تلاعب لفظي رمزي قد يشير إلى إنكلترا، لكنه ليس بلدًا بعينه قطعًا[13].
ويموت الإخوة الأوائل أيضًا، بحسب ما يذكر الـFama، ويخلفهم مَن يخلفهم على الطريق، أولئك الذين يعاودون، بعد انقضاء 120 عامًا على وفاة معلِّمهم الأول، اكتشاف ضريحه – ذلك الاكتشاف الذي نتوقف عنده قليلاً متفكرين...
فـ"الأب" المؤسِّس كان قد تنبأ بالحدث: إذ وجدوا كتابةً منقوشةً على الباب السري للمدفن بحروف كبيرة: Post CXX Annos Potebo، أي "سوف أُكتشَف بعد مائة وعشرين عامًا". ويمضي الكتاب في وصف دخول الإخوة إلى الضريح الرمزي:
فتحنا الباب صباحًا، فوجدنا قبة ذات سبعة أضلاع وسبع زوايا، طول كلِّ ضلع منها خمسة أقدام وارتفاعها ثمانية أقدام. ومع أن الشمس لم تُنِرْها قط فقد كانت تشع بفضل شمس أخرى تلقَّت نورَها الباهر من منزل شمس الأعالي في المركز.
وقد زُيِّنَتْ جدرانُ قاعة المدفن بمكتبات تحتوي على نفائس الكتب السرَّانية، التي من أهمها قاموس السحر لپاراكلسُس، وفي وسطها مذبح نُقِشَ عليه باللاتينية بأحرف من ذهب: "جعلت من هذا الضريح ملخصًا للكون"[14]. والسقف تزيِّنه خمس دوائر، أربع منها على شكل صليب والخامس يحيط بالأربع، دوائر نقرأ في وسط كلٍّ منها عبارة من العبارات التالية:
Nequaquam vacuum
Legis jugum
Libertas Evangelii
Dei gloria intacta
ما نترجمه على التوالي بـ: "لا فراغ في أي مكان"، "نير الناموس"، "حرية الإنجيل"، "مجد الله لا يُمَس". لكن أهم هذه العبارات – العبارة الخامسة التي يُختتَم بها الـFama – هي بلا ريب:
Ex Deo Nascimur
In Jesu morimur
Per Spiritus Sanctum revivicimus
وهي تعني: "من الله نولد، في يسوع نموت، وبالروح القدس نُبعَثُ من جديد"، التي أصبحت شعارًا للأخوية. ونكتفي هنا بهذا القدر من العرض، لننتقل إلى الكتاب الثاني، أي إلى الـ...
4. Confessio fraternitatis R.C. أو "إفشاء عقيدة أخوية الوردة + الصليب"
وقد صدر هذا المنشور في العام 1615 كملحق للطبعة الثانية من الـFama. وكان ما تميز به، بادئ ذي بدء، هو التعريف باسم مؤسِّس الجمعية: Christian Rosenkreutz الذي قيل إنه ولد في العام 1378 وعاش قرابة المائة وستة أعوام.
وهذا الكتاب، كتتمة للكتاب الذي سبقه، هو أيضًا رسالة خوف وأمل: خوف مشروع، ربما، نابع من الحالة الراهنة للإنسانية، وأمل من خلال رسالة تدعو إلى فلسفة "مسيحية" حق وإلى تقدُّم المؤمنين بها عن طريق "منهاج حياة" كان موجودًا دومًا ولا يسير عليه إلاَّ الإنسان الحق. ومن خلال هذا الكتاب، يعلن الكاتب في وضوح نهاية المحمدية والكثلكة وحلول دور جديد من الوحي، لأنه...
[...] بعد أن يصحو العالم من سكرته التي شربها من الكأس المسمومة، سيمضي الإنسان لملاقاة الشمس المشرقة، عند الصباح الباكر، بقلب مفتوح، مكشوف الرأس وحافي القدمين، منتشيًا يملؤه السرور.[15]
لذلك،
من الضروري الآن أن يتقهقر كل ضلال وعتمة وعبودية استولت تدريجيًّا على علوم البشر وأعمالهم وحكوماتهم [...] بحيث إن غالبية البشر أظلموا. [...] غير أنه ليس ثمة بنظرنا إلا فلسفة واحدة، ألا وهي تلك التي تتوِّج جميع الملَكات والعلوم والفنون. وهذه [الفلسفة] تشمل بالأخص، فيما يتعلق بقرننا، علومَ اللاهوت والطب، وقبل كلِّ شيء، علم القانون؛ إنها فلسفة تسبر أعماق السماء والأرض بمعونة فنٍّ تحليليٍّ ممتاز أو، بكلمة واحدة، تعبِّر أساسًا عن أن الإنسان عالم صغير.[16]
ونسجل هنا تطابُق الـConfessio مع الـFama من حيث المضمون. لكننا، إلى ذلك، نلحظ في الـConfessio تأكيدًا أكثر على ما يتصوره نهايةً للعالم ووضوحًا أكبر فيما يطرحه من منحى مناهض للبابوية من خلال الحديث المفصل عن "إصلاح" مفترض، لأن ما تبغيه هذه الأخوية المؤسَّسة بوحي من الروح هو استعادة عصر السعادة الذي سيحل محلَّ الليل الشيطاني السائد. عندئذٍ سيُكشَف عن جميع الأسرار، سيختفي الكذب، ويتلاشى كل زيف. كما ستعرض الأخوية إذ ذاك على الملأ ما بقي مستورًا من عقيدتها.
ولأنها تريد أن تكون على علاقة طيبة مع السلطات الزمنية، ترفع الأخوية إلى رئيس هذه السلطات – وكان آنذاك رأس الإمبراطورية الرومانية – صلواتها وأسرارها وكنوزها كلَّها، مؤكدةً على أن العلم وحده لن يخلِّص العالم، بل، على العكس، سيقوده نحو المزيد من الغرور. وأيضًا...
شاء الإله أن يضيء للإخوة مشعلاً سادسًا يريهم العجب، لأنهم لن يعرفوا بعده الجوع ولا الفقر ولا المرض، كما أن أعمارهم ستطول إلى ما لانهاية. كما سيُتاح للإخوة أن يتواصلوا مع بلاد الهند، كما ومع الپيرو (أي بلاد الإنكا)، وسيتمكنون من القراءة في كتاب واحد يتضمن كلَّ ما كُتِبَ في الماضي وما سيُكتَبُ في المستقبل. وعن طريق الموسيقى، سيحولون الصخور إلى أحجار كريمة، ويخترقون قلب إله الجحيم (پلوتون)، كما وقلوب عظماء هذه الدنيا. فالإله شاء أن يقدِّم للعالم، وهو على مشارف نهايته، ما يحتاج إليه من نور وحياة رغيدة تضاهي تلك التي عرفها آدم قبل "الخطيئة الأصلية".
ولأن هذه النهاية أضحت وشيكة، يحث الـConfessio قرَّاءه على التمعن في الكتاب المقدس، ذلك الكتاب "الأروع، والأكثر خلاصًا، والأجمل، الذي أتيح للبشر أن يقرؤوه منذ كان هذا العالم"، كما ويحثهم أن يسترشدوا به في حياتهم، لأنهم بهذا سيتواصلون مع روح الأخوية. ذلك لأن عليهم أن لا يعلِّقوا الكثير من الأمل والرجاء على الإصلاحات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية: فخلاص الإنسان يكون من داخله، ويرتبط بمقدار نكرانه لذاته، كما يرتبط بصفائه، ومحبته لأخيه الإنسان. فالشخص المتعاطف مع آلام البشر وعذاباتهم هو الأقرب إلى الله الذي سيكافئ المتواضعين ويستبعد المتكبرين: فالله يُسمِعه صوتَ ملائكته. وأيضًا...
يعطي الـConfessio بعض شروح ذات علاقة بأهداف أخوية الوردة + الصليب وروحها. فهي ذات تراتبية معينة، وهي، من أجل القيام بأعمالها، تضم صغار الناس إلى جانب عظمائهم وعلمائهم، إنْ كانوا جديرين بذلك. كما أنها "غنية جدًّا"، حيث تمتلك من الثروات و"الذهب" أكثر بكثير مما يمكن تصوره – مشيرين هنا إلى أن الـConfessio كان ينظر إلى الخيمياء كقوة شافية بمقدورها تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، كما بمقدورها أيضًا معالجة البشر وشفاؤهم. ونتوسع هنا قليلاً لنشرح بعض الشيء مفهوم...
5. الخيمياء من منظور سرَّاني...
لأن للخيمياء القديمة، التي هي كما نعلم أم الكيمياء الحديثة، وجهين ليسا بالضرورة متعارضين: حيث الوجه الأول مادي وملموس، بينما الوجه الثاني فلسفي وروحاني؛ أو لنقل إن الوجه الأول هو الظاهر، أي ذلك الذي يمارَس في المختبَر ويبتغي فهم قوانين الطبيعة والتأثير عليها، بينما الوجه الثاني أو الباطن هو ذلك العمل الفلسفي والروحاني الذي يتعاطى مع النفس البشرية – وهذا الجانب قد يكون الأهم...
فالخيميائيون الحقيقيون، أو "فلاسفة النار" كما كانوا يُدعون، غالبًا ما كانوا يتكلمون في مؤلَّفاتهم على أولئك الذين "يُحيون اللهب" في قلب ما يدعونه "بيت النار" أو "التنور" Athanor طلبًا للذهب – ما قد يوحي للوهلة الأولى، ربما، بالوجه المادي الجشع للنفس البشرية. لكن ما يعمل الخيميائي عليه، ويسعى لاستخلاصه في الحقيقة، هو "المادة الأولية" Prima matæria – وهذه، من منظور فلسفي روحاني، هي "النفس البشرية".
ومع هذا الانقلاب في المفاهيم، سرعان ما يتحول كل شيء إلى رمز، ويصبح "التنور" هو الجامع بين الجسم المادي وباقي المواد غير الملموسة التي تمكِّنه من الحياة وتؤمِّن له، بالتالي، إمكان التواصل مع الشرارة الإلهية أو الروح فيه؛ ويصبح المختبَر رمزًا للحياة الإنسانية، حيث يتاح للنفس – التي هي المعدن الخسيس المختلط بالشوائب – إمكانُ التخلص من شوائبها والتحول إلى "ذهب".
ونسجل هنا أن الخيمياء، كما ينظر إليها جماعة الوردة + الصليب، ليست فقط مجرد عملية تحويل للشخصية الإنسانية، بل هي تركز أساسًا على العلاقات القائمة بين الإله والإنسان والطبيعة. فالمعرفة، وفق "كتاب الطبيعة"، تتعارض مثلاً مع ذلك المفهوم المادي الذي كان سائدًا ويتصور الكون مؤلفًا من مجموع ذراته. والمعرفة الحق تؤكد أول ما تؤكد على التناغم بين الإنسان[17] وبين الكون، أو لنقل بين "العالم الأصغر" Microcosm و"العالم الأكبر" Macrocosm.
والفلسفة، من منظور جماعة الوردة + الصليب، تمعن في دراسة ما تعتقد أنه العلاقة بين السماء والأرض: فالإنسان في نظرها هو العالم الأصغر الذي هو، في حدِّ ذاته، صورة عن الكون أو العالم الأكبر ومختصر جامع له. والتلاقي بين هذين البعدين هو ما يرمز إليه الصليب الذي تكمن في قلبه الوردة عند تقاطُع فرعَيه[18].
فالوردة، من منظورهم، هي "التنور"[19]. وبالتالي، يصبح الهيكل الذي بناه المعلِّم والفارس الأسطوري كريستيان روزنكرويتس وأسماه "مقام الروح القدس" هو المكان الذي يرمز إلى المختبَر، حيث تتلقى النفس البشرية العلوم التي تعينها على الخلاص. وهذا ما يبيِّنه في وضوح أكبر الكتاب الثالث، أي...
6. "عرس كريستيان روزنكرويتس الخيميائي" Noces chymiques de Christian Rosenkreutz
وهو الكتاب الوحيد الذي تبنَّى القس أندريا تأليفه، مدعيًا أنه كتبه حين كان شابًّا في السادسة عشرة من عمره[20]. ويقدم لنا هذا الكتاب، من خلال قصة مشوقة، المسار الرمزي والباطني لبطلنا الذي كان في حال تأمل عندما باغته في رفق، على خلفية صوت بوق "كأنه ينبئ بالقيامة"، ظهورُ ملاك على هيئة صبية جميلة في ثوب أزرق اللون "تأتيه لتضع على منضدته رسالةَ دعوة ممهورةً بخاتَم الخيميائيين تدعوه إلى حضور حفل عرس الملك". ويتهيأ بطلنا، فيلبس ثوبه "المزين بإشارة الصليب" وقبعته التي زيَّنها بأربع ورود، ويذهب لحضور عرس الملك.
ونتفكر في ماهية هذا الكتاب – الطريف كالجنون والجميل كالحلم! – الذي يقص علينا، عن طريق الرموز والإشارات، تدرُّج بطلنا، ذلك الإنسان الحقيقي البالغ من العمر عتيًّا (81 عامًا يومذاك)، على طريق الوحي – ذلك البطل الذي سرعان ما سيجابه، في أول الغابة التي توجَّه نحوها، امتحانه الأول. فقد كان عليه
[...] أن يختار بين ثلاث طرق: طريق أول قصير، لكنه وعر وخطير جدًّا، والطريق الثاني الملكي الذي لا يسلكه إلا المصطفون، وطريق ثالث طويل وآمِن سيوصله إلى هدفه بعد ألف عام.
... ما يعني أنه قد لا يصله أبدًا! ويُبلَّغ بطلُنا قبل القيام بخياره أنه لن يكون بوسعه التراجع بمجرد أن يتخذ قراره. إذ ذاك يترك فارسُنا للقدر أن يدلَّه على الطريق، و"يدخل الغابة"، متابعًا طائر بوم كان يلاحق حمامة بيضاء لكي ينقذ هذه الحمامة، مما يؤدى إلى فقدانه لقارورة دواء كان يحملها. لكنه يستودع نفسه بين يدي
[...] الخالق الذي جَعَلَه يختار عن غير وعي منه الطريق الملكي – هذا الطريق الذي أوصله، بعد طول عناء، إلى ذلك الجبل حيث كان يقوم قصر الملك [...]
فيتسلَّقه في صعوبة، ويصل إلى
[...] بابه الذي كان على وشك أن يُغلَق مع حلول الليل، فيستقبله حارس ودود طيب، أحنى ظهره التواضعُ والسنون [...]
ويُدخِله إلى القصر، لتستقبله هناك تلك الصبية نفسها التي دعتْه إلى الحفل والتي تقوده عبر ساحة واسعة إلى "المقام الملكي".
وهناك، يعبر كريستيان البوابة الثانية التي ينتصب على جانبيها تمثالان – الأول ضاحك والثاني باكٍ –، وفوق الباب عبارة منقوشة تقول: "أعْطِ تُعْطَ". وهناك يجد أناسًا كثيرين جاءوا إلى العرس مثلما جاء؛ وأغلبهم كان وصل عبر "الطريق الملكي" نفسه الذي سلكه هو، لكنهم، لم يكونوا جميعًا من الأطهار. وتظهر الصبية من جديد
[...] وهي تسير بخطى راقصة وتلبس ثوبًا أبيض مذهبًا ومشعًّا إلى حدِّ أنك تكاد لا تستطيع أن تنظر إليه: ألف نجمة صغيرة جعلت هذا الليل الدامس أشد نورًا من الشمس [...]
فتخبر الحضور بأنهم سيواجهون في الغد الامتحان الأكبر الذي سيفرز الأبرار منهم من غير الأبرار. ويقضي الأبرار الحقيقيون، أولئك الجديرون بحضور الحفل،
[...] ليلة خشية وتخشع، فيصلُّون في قلب الظلمة متضرِّعين إلى الله كي ينجِّيهم.
ويأتي الغد، ويكون الامتحان الذي توزَن فيه النوايا والخصال، ويفوز روزنكرويتس الذي كان أطهر الجميع، فـ"يُخلى سبيلُه ويُستقبل بحفاوة"...
لأنهم قليلون جدًّا كانوا أولئك الذين اجتازوا الامتحان مثله، فالتحقوا به في الجانب الصحيح؛ أما الباقون الذين رسبوا وتجاسروا عن غير جدارة على دخول المقام الملكي، فقد حُكِمَ عليهم بالموت.
وتقدَّم "الجزة الذهبية" Golden Fleece هديةً للذين نجحوا في الامتحان، بينما نرى الآخرين، أي الإخوة الكذبة الذين حُكِمَ عليهم بالموت، يشربون "كأس النسيان" الذي قُدِّم لهم، ثم يُطردون من القصر إلى غير رجعة "إبان هذه الحياة".
وتطرح الصبيةُ على الناجين الذين نجحوا في الامتحان لغزًا معرفيًّا هو اسمها الذي تعرضه عليهم من خلال معادلة جبرية – معادلة كان الفيلسوف الرياضي لايبنتس Leibniz أول مَن حلَّها فيما بعد واقعيًّا، ليجد – ويا للخيبةَ – أن الاسم المطلوب كان كلمة "الخيمياء" Alchemia.
وتدخل عدة صبايا، إحداهن ترتدي لباسًا أزرق مرصعًا بنجوم ذهبية، تقودهم وهي "تنظر باستمرار نحو السماء" عبر باب صغير أعلاه مرصعٌ بتاج، فتعلمهم "أمجاد الخالق وعظمته وطُرُق التعرف إليها".
وفي اليوم التالي، يمثُل المختارون أمام الملك الذي يشكرهم على تلبية دعوته والمجيء إلى هذا المكان، "مخاطرين بحياتهم وأجسادهم"، فيقسمون أمامه بالوفاء وإلاَّ تعرضوا لأشد العقاب. وقرب الملك كانت تجلس "ملكة شابة في منتهى الجمال"، وعلى مقربة منها امرأة "عجوز محجَّبة، وفي خلفية القاعة كان كوپيدون يلعب"، بينما في مقابل الملك كان يوجد هيكل وُضِعَ عليه
[...] كتاب أسود التجليد، وكأس فيها ماء صافية ودامية، وجمجمة يخرج رأسُ ثعبان من أحد محجريها وذيلُه من المحجر الآخر.
بمجرد أداء القسم، تدوَّن أسماءُ المريدين في الكتاب الأسود، ما يذكِّرنا برمزية أسماء المختارين المدونة في "سِفْر الحياة" في العهد الجديد[21]. ثم يشرب المختارون مع الملك كأس "خمرة الصمت".
ثم تُجلَّل القاعة بالسواد، وتُعصَبُ عيونُ الملك والملكة، وتُعصَبُ معهم عيونُ أربعة ملوك – ملكان وملكتان – كانوا حاضرين في القاعة إلى جانبه. ثم تُجلَب ستة توابيت، ويأتي عبد في ثياب سود، فيضرب على التوالي الأعناق الملكية الست التي تكفَّن جثامينُها وتوضع في التوابيت مع رؤوس أصحابها، وإلى جانب كلٍّ منهم وعاء يحوي دمَه. ثم يُقتل العبدُ بمجرد الانتهاء من إعدام آخر الملوك على يد أحد أفراد الحاشية الملكية. وتنبئ الصبية الحضور الذي تملَّكه الرعب بأن حياتهم أصبحت الآن بين أيديهم وأنهم – إنْ تبعوها – سيكونون "أحياء أكثر".
وبين الحضور كان روزنكرويتس هو وحده الذي كشف السرَّ الكبير عندما شاهد التوابيت وهي تُنقَل في ظلمة الليل الدامسة إلى ظهر سفينة تتجه بها نحو جزيرة تقع في وسط بحيرة. أما الباقون – وكان روزنكرويتس معهم – فقد حضروا في اليوم التالي المراسم الخادعة لدفن الملوك الستة تحت شعار طائر الفينيق Phœnix. وتطلب الصبية من الحضور الوفاء بقَسَمهم والتوجه معها إلى "برج أولمپيا" الواقع في جزيرة في وسط البحيرة للبحث عن "الإكسير" Elixir الذي سيسمح بإعادة الحياة إلى الملوك من جديد.
ويركب الحضور السفينة التي تقودهم برفقة مرشدتهم إلى تلك الجزيرة وإلى ذلك البرج، أي إلى "برج أولمپيا" المكون من "سبعة أبراج، كل منها مبني في قلب الآخر، ويتألف كل برج من سبع طبقات". وهناك، يشاهد الحضور – كما ويساعدون على – القيام بعدة عمليات خيميائية تكون حصيلتها كرة نارية حمراء، تُستخرَج منها، بعد أن تبرد، بيضةٌ ينبثق منها طائر فينيق يُقتَل وتُحرَق جثته؛ ثم بواسطة رماده، وبعد ولوج الطبقة الأخيرة من البرج الأخير، تعود الروحُ إلى أزواج الملوك والملكات الستة، فيتحولون إلى الزوجين الملكيين القائمين من الموت على خلفية صوت حادٍّ لبوق يصدح.
ويعود الملكان إلى مملكتهما، وفي حضرتهما يقسم الحضور متعهدين بـ"الاستمرار في الجهاد في سبيل الطهارة". ثم يُكرَّسون "فرسانًا للحجر الذهبي"، فرسانًا وُهِبوا جميعًا القدرات التي تمكِّنهم من محاربة الجهل والفقر والمرض. ويعود الجميع من حيث أتوا، ماعدا روزنكرويتس الذي، بسبب خطأ طفيف ارتكبه قبيل توجُّهه إلى برج أولمپيا، اضطر إلى الحلول محلَّ حارس القصر العجوز الواقف عند البوابة الأولى كي ينتظر مثله، بكلِّ خشوع، مجيء ساعة الخلاص. ولقد قيل له إنه حصل على ما حصل عليه الآخرون، لكنه مازال مطلوبًا منه تقديمُ المزيد – بطلنا الذي وقَّع في النهاية، كالآخرين، على وصيته قائلاً:
إن أعلى درجات العلم هي أنْ لا تعرف شيئًا. الإمضاء: الفارس كريستيان روزنكرويتس، فارس الحجر الذهبي، العام 1459.
وبهذا تنتهي هذه القصة المذهلة التي قد يسخر بعضهم منها ومما قد يبدو لهم فيها من قبيل الخرافة الساذجة. لكنها جعلت الكثيرين – ونحن منهم – نقف فاغرَي الفم، متأملَين، حالمَين أمام عمق رموزها[22]. ونتفكر...
7. في السرَّانية الوردصليبية...
مع أخذنا في الحسبان التنويعات والتكيفات المتوالية للسرَّانية عبر العصور، بحسب الأمكنة والأزمنة والثقافات، ليتبين لنا أن خصائصها هي عينها الخصائص التي يتسم بها عمومًا التيار السرَّاني في الغرب.
بادئ ذي بدء، تقدِّم الأخوية نفسها بوصفها طريقة "مسيحية"، حيث المسيح هو المعلِّم المسارِر ومثال كلِّ كمال بشري[23]. ففي كتاب من تأليف يواكيم فريسيوس Joachim Frisius بعنوان Summum Bonum ("جماع الخير"، وأغلب الظن أنه من تأليف روبرت فلود) نقرأ:
الغاية الوحيدة والنهائية للسحر كما وللقبالة الحق إنْ هي إلا الحكمة، الكلمة، المسيح. فما من اسم آخر يُتوجَّه إليه بالدعاء إلا اسم يسوع، ما من اسم آخر، على الأرض أو في السماء، يكون به الخلاص لنا إلا اسم يسوع الذي تأتلف به الأشياءُ كلها، لأن يسوع المسيح هو الكل في الكل.[24]
هناك أيضًا مصنَّف ألماني موقَّع باسم فلورنتينوس البلنسي Florentinus de Valentia، هو عبارة عن رسالة صغيرة بعنوان Jhesus mobis omnia ("يسوع هو كل شيء لنا") نُشِرَتْ في فرانكفورت في العام 1617، جاء فيها:
أريد ألا أكون شيئًا، أن أصدِّق كلَّ شيء، أن أنزل عن نفسي لله كالطفل وأساوق بين إرادتي وإرادته، وأطلبه قبل كلِّ شيء، وأدع ملكوته يفعل فيَّ.
والمعراج السماوي الذي يتوق إليه الروزكروشي يعبِّر عنه روبرت فلود أجمل تعبير:
الروح التي تحرِّك الجسد تنزع إلى العروج كالشعلة نحو المنازل السامقة من الفضاء. فهناك موضع توقها وسعادتها. لماذا نكابد تعبًا عظيمًا حين نتسلق جبلاً؟ ألسنا بذلك نمضي في الطريق التي تسر الروح؟ ذلك أن الجسد المادي الذي ينزع في جوهره، على خلاف الروح، نحو مركز الأرض، ترجح كفته، نتيجة كتلته، على الشرارة التي تحرِّكنا. على الروح أن تستجمع قواها كلَّها لكي ترفعه معها وتحمل كتلة الجسد الثقيلة التي تكبِّلها على الامتثال لدافعها.
وإذا يبلغ المرءُ الإشراق الروحي، يصير في وسعه أن يتحرر من عواقب السقوط في المادة. تلكم غاية نجد تعريفًا ممتازًا بها في رسالة وضعها جان تريثيم Jean Trithème في العام 1500:
[...] العروج نحو هذا التناغم فوق السماوي، حيث لا شيء مادي وكل شيء روحي. فهناك الشبه وأصل الروح.
ومن أجل بلوغ هذه الغاية – الإشراق الخلاصي – على المرء أن يتطهَّر من غرائزه الحيوانية وأن يجتهد للتغلب على جميع نوازعه السلبية المحدودة. هاكم مقطع من كتاب Prognosticatis لپاراكلسُس يحدِّد غاية هذه الخيمياء الروحية، هذا المعراج:
كما الذهب والفضة، عليك أن تتطهَّر من أدرانك كلِّها وأن تُمتحَنَ أكثر من سبع مرات في سكينة نفسك بأشد من امتحان النار إذ تطهِّر الذهب والفضة من شوائبهما.
وفي رسالته الدفاعية Tractatus apologeticus (1617)، يحدد روبرت فلود ذلك بقوله:
الروح القدس لا يتنزَّل عليه [على الإنسان الدنس] قبل أن يتطهَّر مقر القلب والروح وينقَّى من الأدران كلِّها.
ويؤكد مؤلِّف وردصليبي آخر من الفترة نفسها – هو ڤالنتينوس تشيرنسن Valentinus Tschirenessen – في رسالة صغيرة نُشِرَت في دانتزش في العام 1617 بأنه لن يُقبل في الأخوية إلا المريدون الذين باتوا "سادة أجسادهم والرجال الأحرار"[25].
وبعد قبوله في الأخوية، إذا استطاع الروزكروشي أن يطهِّر نفسه، يجوز له أن يمضي قُدُمًا في درب التجدد الدائم، فيسمو في معراجه الروحي، ويعزِّز الصلة مع النواة الإلهية في سريرته – مرشده الداخلي –، وبذلك يتمكن من اكتناه رموز الكتابين العظيمين اللذين "كتبهما" الله: كتاب الطبيعة العظيم وكتاب الإنسان. وذلكم هو المبدأ الرئيسي في القلب من الطرُق السرَّانية كلها: المقايسة بين قوانين العالم الأكبر والعالم الأصغر[26]. وهكذا، بعد أن يحقق المريد المبدأ الهرمسي بالتحرر من جميع حدود الشرط البشري، فإنه يستطيع بلوغ تحقيق رمز الأخوية: وردة الصليب. إنه يصير وردة + صليب. ومَن يحقق ذلك هو الكائن الذي حقق الانعتاق وكمال إنسانيته. أما الذين لا يجرؤون على الأمل في بلوغ هذه الغاية المجيدة أو ليس لديهم الاستعداد لها، فيكتفون بالعمل مجتهدين على الطريق نحو النموذج البدئي للإنسان الكامل، فهم مجرد "روزكروشيين"[27].
وبعد بلوغ الطهر الكامل والتحرر الداخلي، يحقِّق "وردة الصليب" Rose-Croix في روحه العرس الإلهي المقدس بين القطبين المؤنث والمذكر في كيانه Hieros gamos، فـ"يعانق العروسُ عروسَه الحبيبة"، ويجعله الإشراق يسبر قلب الأشياء الخفي، فيمتلك العلم الكامل و"الحكمة الكلِّية" Pansophia، أي يصبح عارفًا متحققًا بالقوانين الكونية الإلهية المهيمنة على العالم، من جهة، وعلى الإنسان، من جهة أخرى. وسيعرف توالي الأدوار الأرضية، ابتداءً من انتظام ما يُعرَف بالعماء البدئي Chaos في النور الكوني (سر أيام الخلق الستة)، حتى "الحريق" الأخير الذي سيطهِّر الأرضَ ويجدِّدها قاطبة. وبهذا يستعيد الملَكات والقدرات التي أضاعها بعد السقوط الآدمي والتي تقوده إلى وعي دائم على مرتبة كيانه الروحي، نواته الداخلية فوق الشخصية والإلهية التي تتعالى عن الحدود الأنانية كلها. قد تهب العواصف من حوله، لكن هذا لن يعكِّر صفو تناغمه الداخلي وطمأنينته؛ إذ لقد بلغ غايته: "السلام العميق" Pax profundis.
أشرنا حتى الآن إلى ثلاثة أركان للسرَّانية الوردصليبية: المعراج، التضحية، المشاهدة. لكن هناك أركانًا أخرى: الوردة + الصليب طريقة سرَّانية شعائرية؛ فهي، في عبارة أخرى، تنتمي إلى التنظيمات السرية التي تتصف بطقوس مقدسة مخصصة للأفراد وحسب تمارَس في مكان محدد (هيكل، محفل). هناك مؤرخون ينفون عن الوردة + الصليب وجود الشعائر؛ لكنهم مخطئون نسبيًّا، إذ لا يميزون بين مرتبة وردة الصليب التي بلغ صاحبُها الكمال الإنساني، فتخطَّى بذلك جميع الأشكال والمظاهر والشعائر الظاهرية، وبين الروزكروشي الذي يجاهد على الطريق. فإذا لم نجد وصفًا صريحًا للطقوس في المصنفات، فمرد ذلك إلى حرمتها وانتمائها إلى مجال التعليم والتلقين الشفهي. غير أن كتاب العرس الخيميائي يفصِّل الشعائر، لكنْ بشكل رمزي: ففيه يوضح المؤلِّف الشعائر الملازمة لتلقين كلِّ درجة من الدرجات الروحية، وصولاً إلى أعلاها.
نختتم هذه العجالة بنصٍّ من كتاب روبرت فلود رسالة لاهوتية فلسفية Tractatus theologico-philosophicus:
انفتحت عيناي وفهمت، عبر جوابكم الموجز، ما أودعتموه – بإيعاز من الروح القدس، كما تقولون – اثنين من المختارين في ندوتكم. في حوزتكم السرُّ الحق ومعرفة المفتاح المؤدي إلى فرح الفردوس، مثلكم كمثل الآباء والأنبياء في الكتب المقدسة. [...]
إنكم لتُسِرُّون إلى اثنين من المختارين بوجود جبل قائم في وسط الأرض في حماية غير الشيطان وتحُول وحوشٌ شرسة وقوية دون الوصول إليه في يسر. وإنكم لتأمرونهما، بعد أن يستعدا لمثل هذا الأمر بالصلوات المتفانية، بالمضي إلى ذلك الجبل، وتعدونهما بمرشد، يتقدم نحوهما وينضم إليهما دون أن يعرفاه. [...]
هي عاصفة وهزَّة أرضية ثم، مع انبلاج الصبح، تحل سكينة شاملة. إذ ذاك ستبصران نجمة الصبح تشرق والفجر يعلن عن ذاته. وفي هذه اللحظة سيظهر لبصيرتكما الكنز.
ونكتفي من هذه الأجواء بهذا القدر، لنسرد بعضًا...
8. ممَّا حدث بعدئذٍ...
وكان فعلاً ملفتًا للنظر، حيث إنْ وضعنا جانبًا بعض "الدجالين" الذين حاولوا حينذاك تسخير ما طُرِحَ للتلاعب بعقول بعض السذَّج، كان أن تبنَّى العديد من نخبة النخبة في تلك الأيام، ومازالوا إلى الآن، ما طرحتْه ودعت إليه أفكار الوردة + الصليب، فجعلوا من أنفسهم، مباشرة أو في صورة غير مباشرة، من دعاتها.
والجانب المفيد الذي يهم مؤرخ الحركات السرَّانية هو ما تفتَّق عنه الجهرُ بوجود الأخوية من أدبيات اكتست بثوب أسلوب التعبير الروحي السائد في تلك الفترة، وخصوصًا المصطلحات القبالية والخيميائية. فمجاز الرؤيا الخاصة بـ"الحجر الذهبي" في العرس الخيميائي أفسح المجال لأدبيات عديدة مثلاً حول "حجر الفلاسفة" – وإن كان بعضهم قد أخذ بالمعنى الحرفي دون التأويل الروحي الذي نادى به الصوفي رويسبروك في مؤلَّفه العشق أو الحجر الوقاد. ويبدو أن الأب الروحي لأندريا كان ضليعًا بالمنقول الخيميائي، وهو مؤلِّف مصنف كتب المسيحية الحق الأربعة Vier Bucher von wahren Christenthum (1610). وقد وقف مفكرون عديدون موقف الدفاع عن الوردة + الصليب، معلنين في دفاعهم عن أفكار فلسفية وثيوصوفية على غاية من الأهمية. نذكر منهم ميشائيل ماير Michael Maier، طبيب رودولف الثاني ثم طبيب أمير ناساو Nassau، الذي طرح فكرًا رمزيًّا زعم أنه من مصدر روزكروشي في كتابه Cantilenæ intellectualis de phœnice redivivo (1622) واهتم بالجانب النظري العقائدي في كتابه ركن الأركان Arcana Arcanissima (1614) الذي عبَّر عنه بمفاهيم ثيوصوفية ومنطق باطني معقَّد خلا منه "البيانان" اللذان ركزا على الجانب السرَّاني فقط[28]. وفي فرنسا، أهدى الخيميائي الفرنسي ميشيل پوتييه Michel Potier كتابه مقالة جديدة في حجر الفلاسفة Nouveau traité de la Pierre Philosophale (1617) إلى جماعة الوردة + الصليب.
أما في إنكلترا، فقد اتسم القرن السابع عشر بتسنم الفكر الخيميائي ذروته وبأثر لا يُستهان به للأفكار الوردصليبية. ففي رسالته Tractatus apologeticus (1617) التي سبق لنا أن اقتبسنا عنها، دبَّج روبرت فلود دفاعًا محكمًا عن "جمعية وردة الصليب" ضد خصومها؛ لا بل إنه، في اثنين من مؤلَّفاته الأخرى تحديدًا، وهما: Apologia Compendiera (1616) وSummum Bonum (1629)، طرح نفسه كناطق باسم الوردة + الصليب، ما قد يبدو متناقضًا مع دعوة تلك الأخوية إلى التخفِّي. وقد تحدث فلود في مؤلَّفاته عن الخيمياء والسحر والقبالة، ومثله كمثل ماير، أضفى على أفكار "البيانين" روحًا قبالية اتسمت بها خبرتُه الشخصية، كما تكلم على الحكمة الإلهية Theosophia التي عن طريقها يتم التمييز بين الخير والشر.
بعده مباشرة، نسجِّل اسم التشيكي كومينيوس Comenius الذي، على خطى روبرت فلود، طوَّر أفكار "بيانَي" الوردة + الصليب وأسَّس من أجل دراستهما في أمستردام "مجمع الحكمة الكلِّية" Collegium Pansophicum الذي يدَّعي الانتساب إلى هذا المنحى.
وازدهرت الحلقات ذات التوجه الوردصليبي، وانتسب معظم أعضائها في إنكلترا وإيرلندا إلى المحافل الماسونية الناشئة التي تبنَّت المنحى مباشرةً وخصَّصت له إحدى أهم درجاتها العليا، الدرجة 18[29]. وهذا ليس بمستغرب، لأن مجرد تأمل بسيط في رمزية هندسة ضريح كريستيان روزنكرويتس وأبعاده الذي صُمِّم كي يكون "ملخصًا للكون"، يعيدنا إلى رمزية أسطورة هيكل سليمان ومهندسه حيرام أبيف. وأيضًا...
نسجل اهتمام العالم والفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت René Descartes حينذاك بجمعية الوردة + الصليب، إلى حدِّ أنه نُسِبَ إليها. لكن ديكارت، الذي كان صديقًا حميمًا لكومينيوس، نفى هذه المزاعم، وإنْ لم ينفِ اهتمامَه بالوردة + الصليب[30]. وأيضًا...
لم ينقطع الاهتمام بهذا المنحى، لكنه تطور بالأخص، إن لم نقل حصرًا، عن طريق التوجهات الروحانية للماسونية التأملية Speculative Masonry. ففي القرن الثامن عشر، نسجل خاصة تشكل العديد من المحافل الماسونية ذات التوجهات الوردصليبية. وأهمها في ألمانيا كان محفل "الوردة + الصليب الذهبي" Rose-Croix d’Or الذي تأسَّس في العام 1710 ومحفل "الوردة + الصليب الذهبي – النهج القديم" Gold-und-Rosen-Kreutzer ëltern Systeme الذي تأسَّس في العام 1750 وأظهر انتشارًا عدديًّا ملحوظًا، شاملاً تسع رتب متدرجة، ومارس شعائر ملفتة لانتباه مؤرخ الرمزية. وقد انضم إليه ماسون متعطشون إلى السر والباطنية، فغادروا محافلهم من جماعة "فرسان الهيكل من النهج الصارم" Templars of the Strict Observance. نذكر من أعضائه فريدرش شرودر F.J.W. Shröder، الطبيب الخيميائي، وفريدرش كريستوف أوتنغر F.C. Œtinger، أعظم الثيوصوفيين الألمان في القرن الثامن عشر، كما كان من أبرز أعضائه الفيلسوف والرياضي لايبنتس. كما نسجل أيضًا التأثير الكبير للفكر الوردصليبي على غوته الذي تحدث عنه صراحة في قصيدته الأسرار التي كتبها ما بين عامَي 1784 و1786 ولم يُنهِها[31].
وفي فرنسا، تألَّف "تنظيم فرسان مصطفي كوهين" Ordre des Chevaliers élus-Cohen، التي كان يترأسها "الفيلسوف المجهول" مارتينيز دي پاسكوالي Martinez de Pasqualy والتي ضمت بين أعضائها لويس كلود دُه سان مارتان Louis-Claude de Saint-Martin، الذي أعاد اكتشاف الثيوصوفيين الكبار، من أمثال عمانوئيل شڤيدنبرغ ويعقوب بُوهْمِه.
وفي القرن التاسع عشر، نلاحظ اهتمامًا متزايدًا للجمعيات الوردصليبية بالسحر وبعلوم الباطن، حيث تأسست جمعيات عديدة لم تعد تتكلف عناء العودة إلى التعاليم الأصلية في الكتب الثلاثة، فتشكَّلت جمعيات ومحافل ماسونية جديدة، نسجل منها:
– "الجمعية الوردصليبية في أنغليا" La Societas Rosicruciana in Anglia، التي أسسها روبرت وِنْتوُرث Robert Wentworth في العام 1867، مؤلَّفةً من 144 عضوًا فقط. وكان من بين أعضائها إدوارد بلور ليتون E. Bulwer Lytton، مؤلِّف آخر أيام پومپي، وإليفاس ليڤي Eliphas Levi. و...
– "التنظيم الهرمسي للفجر الذهبي" Hermetic Order of the Golden Dawn، الذي أسَّسه روبرت ونتورث نفسه في العام 1887، منشقًّا عن الجمعية السابقة. وقد ضم بين أعضائه القبالي الشهير صاموئيل ليدل ماكغرغور ماذرز Samuel Liddell MacGregor Mathers (زوج شقيقة هنري برغسون، الفيلسوف الفرنسي الشهير)، ووضع نصب عينه إحياء طقوس السحر القديمة. وقد ترأسه فيما بعد الشاعر الإيرلندي صموئيل بطلر ييتس S.B. Yeats، وكان من أعضائه ربما جبران خليل جبران. و...
– "التنظيم القبالي للوردة + الصليب" L’Ordre Kabbalistique de la Rose-Croix، الذي أسَّسه في العام 1888 – لكنْ في فرنسا – كل من ستانسلاس دي غايتا Stanislas de Guaïta وجوزيفان پالادان Josephin Péladan، والذي ضم بين أعضائه الموسيقار الشهير كلود دوبوسِّي. وقد كان من أعضائه أيضًا پاپوس Papus الذي انفصل عنه بدوره ليؤسِّس جمعية منشقة هي "أخوية وردة الصليب والهيكل والغرآل".
– وفي القرن العشرين، نجد أن أهم تنظيم يدِّعي الانتساب إلى الوردة + الصليب هو المحفل الماسوني المسمَّى بـ"التنظيم القديم والسرَّاني للوردة + الصليب" Anticus Mysticusque Ordo Rosæ Crucis (AMORC) الذي أسَّسه الدكتور هارڤي اسپنسر لويس H. Spencer Lewis في العام 1909 في الولايات المتحدة الأمريكية، ويضم حوالى 250.000 عضو موزَّعين في مختلف أنحاء العالم، وكما يقال، يدرس أعضاؤه الأدبيات الوردصليبية. كما يرعى هذا التنظيم جامعة مخصصة لأعضائه تدرس علوم الفلك والبيئة والطب والعلوم المصرية القديمة والموسيقى وعلم النفس والعلوم الباطنية. وأيضًا...
– هناك "الزمالة الوردصليبية" Rosicrucian Fellowship، التي أسَّسها الدنمركي ماكس هايندل Max Heindel في العام 1911، مستوحيًا أعمال رودولف شتاينر والسيدة بلاڤاتسكي، والتي اهتمت بعلم النجوم وعلم الشفاء. و...
– "مدرسة الوردة + الصليب الذهبية" L’École de la Rose-Croix d’Or (Lectorium Rosicrucianum)، التي انشق مؤسسها الهولندي ي. فان ريكنبورغ J. van Rijckenborgh عن "زمالة" ماكس هايندل. و...
– "أخوية كروتونا للتنظيم الوردصليبي" La Confrérie de Crotone de l’Ordre rosicrucien (CCOR)، التي أسَّسها جورج ألكسندر سوليڤان G.A. Sullivan في العام 1924.
– إلخ، إلخ.
9. ونصل إلى نهاية الجزء الأول من هذه المحاولة...
الذي، حين نعيد قراءته، يذكِّرنا بمشهد قبرين متقابلين في مدفن الأب لاشيز في باريس، قبرين يقال إنهما للشخص نفسه، الذي يقال أيضًا إنه كان من جماعة الوردة + الصليب – وكأن صاحبهما، من وراء قبره، يستفزنا، داعيًا إيانا إلى التكهن في أيِّ قبر مدفون هو...
لأن ما يمكن لنا استخلاصه من هذا البحث–المحاولة من نتيجة هو أن الوردة + الصليب، كتنظيم سرَّاني قيل إنه وُجد ذات يوم ومازال إلى الآن، مجرد لا شيء في نهاية المطاف، لأنها، أساسًا ربما، مجرد مقام روحي يبلغه جميعُ أولئك الذين تحققوا بأعلى درجات الرقي الروحاني. أما أولئك الذين يدَّعون الانتساب إلى الوردة + الصليب، سواء كأفراد أو كتنظيمات قائمة، فهم، كما ذكرنا، مجرد "روزكروشيين" Rosicruciens، وهم، في أحسن الأحوال، المريدون الباحثون عن طريقهم من خلال ما يقدمه منقول الوردة + الصليب من وحي وإلهام.
والغوص في ماهية هذا المنقول الذي يصفه بعضهم، وعلى رأسهم رونيه غينون، بـ"الميتافيزيائي"[32]، بينما يصفه بعضهم الآخر بـ"السرَّاني"، هو موضوع شائق وطويل قد نحدثكم عنه لاحقًا – إن شاءت الآلهة!
المصدر موقع معابر
*** *** ***
horizontal rule
[1] شوهدت قبل القرن السابع عشر صور ورود إلى جانب صلبان، لكنها كانت بنظر عامة الناس مجرد رموز في جملة رموز أخرى كثيرة، ولم يبدأ الحديث جهرًا عن الوردة + الصليب كجماعة سرانيَّة قبل العام 1614.
[2] مع أن عددًا من المؤرخين أكد صلة ي.ڤ. أندريا (1586-1654) الثابتة بصدور المؤلَّفات الثلاثة، فإن هذا القول مشكوك فيه، لأنه فيما ماعدا العرس الخيميائي الذي يمكن لنا نسبته فعلاً إلى القس أندريا، فإن نسبة "البيانين" الأولين إليه غير مؤكدة على الإطلاق، بل ومستبعدة. وقد اتسمت تلك الفترة بجدل كثير حول القضية برمَّتها.
[3] Gabriel Naudé, Introduction à la France sur la vérité de l’histoire des frères de la Rose Croix, Paris, 1623, p. 27.
[4] Ibid.
[5] Effroyable paction entre le diable et les prétendus invisibles, Paris, 1623, p. 16.
[6] Ibid.
[7] Ibid.
[8] P. Jacques Gaultier, Table chronologique de l’estat du christianisme depuis la naissance de Jésus-Christ, Lyon 1633, pp. 889 et sq.
[9] يقول بعض المؤرخين بأن ملهم أندريا، إذا صحت نسبةُ الكتب إليه، قد يكون توماسو كامپانيلا، مؤلِّف كتاب مدينة الشمس، وهو يوطوپيا مستلهَمة من يوطوپيا توماس مور. ولعل الصوفيان الكبيران يواكيم دي فيوري وتوماس آكمپس كانا نموذجين لكريستيان روزنكرويتس. ونلحظ كذلك في "البيانين" سمة پاراكلسُس، الطبيب الخيميائي الشهير. وقد كان كل من الصوفيين من المدرسة الرينانية إيكهَرت ورويسبروك قد أطلقا على جميع الناهضين للسير في "طريق الكمال" لقب "الأبناء الأخفياء" أو "المستترون بالله"؛ ونجد في "البيانين" هذين اللقبين.
[10] جدير بالذكر أن السيدة هـ.پ. بلاڤاتسكي H.B. Blavatsky تؤكد، في مقال هام، الأصلَ التاريخي لأسطورة C.R.، إذ تعيد التأسيس الفعلي للأخوية إلى أواسط القرن الثالث عشر وتنسبها إلى فارس ألماني تعاطى ممارسة السحر الأسود، ثم تاب على أثر رؤيا، وأقسم يمينًا لا حنث فيه بالإقلاع عن ممارساته الشريرة، ومضى إلى فلسطين حاجًّا سيرًا على قدميه، وهناك تراءى له المسيح بالروح. وهي تضيف أن الأخوية قد استترت، وأن مركزها الفعلي آسيا الصغرى، لكنها لم تصرِّح باسمها الحقيقي.
[11] بمعنى "البشرى السارة" Euangelion باليونانية.
[12] الإخوة G.V. وI.A. وI.O..
[13] مهما يكن من أمر، كما في جميع الأساطير النقلية التي تتناول سيرة أشخاص روحانيين كبار (أوزيريس، تموز، المسيح، البوذا، حيرام، إلخ)، تصبح الشخصية التاريخية التي يُنسَب إليها المأثور، سواء وُجِدَتْ فعلاً أم لم توجد، ثانويةً بالقياس إلى الصرح الرمزي الروحي المشيد حولها. والمعاصرون، كما جرت العادة، يردون أصول "الجمعية" إلى مصر القديمة، وحتى إلى قارة أطلنطس الأسطورية الغارقة! وعلى الرغم من تعذر التيقن من ذلك تاريخيًّا، فمن المؤكد أن التنظيمات السرَّانية وُجِدَتْ منذ أقدم الأزمنة واستمرت حتى عهد قريب من نشوء الوردة + الصليب. لكن الأسطورة الرمزية تتداخل فيها موضوعات عديدة: رحلة الحج أو السفر الروحي بحثًا عن "النور الإسرائي" (نلاحظ الصلة مع الصوفية المسلمين)، مسألة الشيخ والمريد، وأخيرًا اكتشاف المدفن الخفي بعد انقضاء 120 عامًا على وفاة المؤسس (1604). من ناحية أخرى، ربما كانت سيرة مؤسِّس كل أخوية سرَّانية ترمز إلى حياة الأخوية نفسها التي تمر تباعًا، بحسب المنقول، بأدوار من السرية القصوى وأخرى من الجهر تظهر إبانها وتتجلَّى. فالعام 1604 قد يكون إيذانًا بابتداء طور جديد من الصحوة الخارجية للأخوية.
[14] Hoc universi compedium nisus mihi sepulcrum fui.
[15] «… après que le monde se sera éveillé de son ivresse bue à la coupe empoisonnée, l’homme ira à la rencontre du Soleil levant, tôt le matin, le cœur ouvert, la tête découverte et les pieds nus, jubilant et rempli d’allégresse. »
[16] « Maintenant, il est nécessaire que cède toute erreur, ténèbre et servitude qui se sont progressivement emparées des sciences, des œuvres et du gouvernement des humains… de sorte que la majorité des hommes se sont obscurcis… Il n’est cependant d’autre philosophie pour nous que Celle qui est la Couronne de toutes les facultés, sciences et arts. En ce qui concerne notre siècle elle comprend surtout la Théologie, la Médecine, et avant tout la Science du Droit ; c’est une philosophie qui sonde le ciel et la terre à l’aide d’un excellent art d’analyse ou qui, en un mot, exprime essentiellement que l’homme est un microcosme. »
[17] بمعنى أنثروپوس Anthropos، "النموذج البدئي" للإنسان.
[18] أشهر التعريفات بالوردة + الصليب تعريف الطبيب الخيميائي روبرت فلود Robert Fludd (ستكون لنا عودة إليه): "صليب جلجثة وقد تخضَّب بدم المسيح فنبتتْ منه وردة." جدير بالذكر أن رمزَي الصليب والوردة سابقان للمسيحية. فمن وجهة نظر نقلية عرفانية، يمثل الصليب اتجاهات الفضاء الأربعة، شجرة الكون، طاقة الأفعى، الإنسان، إلخ، فيما تشير الوردة إلى التجلِّي في أطواره، أدوار الحياة والتناوب الحيوي بين الولادة والموت والتجدد.
[19] كلمة ros اللاتينية ("وردة") تعني "ندى" أيضًا، وكلمة crux لا تعني الصليب وحسب، بل "البوتقة" أيضًا: مما يبرهن، مرة أخرى، أن للخيمياء دورًا هامًّا في السرَّانية الوردصليبية.
[20] وهذا الادعاء ملفت للنظر: فكريستيان روزنكرويتس، كما جاء في الـFama، كان في السادسة عشرة من عمره حين بدأ رحلته السرَّانية الأولى.
[21] راجع، مثلاً: رسالة بولس الرسول إلى الفيلپيين 4: 3؛ رؤيا يوحنا 20: 12 و15؛ 21: 27.
[22] الجزء الثاني من هذه المحاولة مخصص بكامله لدراسة العرس ورموزه الخيميائية.
[23] المسيح، باطنيًّا، هو "الكلمة" Logos الذي كُوِّن به العالمُ عبر فعل "قربان كوني": الإله "يصلب" نفسه، الروح يميت نفسه على صليب المادة، ليولد الكونُ من البيضة الأم، أو الهيولى الأولى التي لقَّحها الروح، بوصفها رمزًا للتجلِّي الكوني. يسوع في السرَّانية الروزكروشية هو "الإنسان الكامل" الذي حقق مبدأ التضحية، أي أعاد تمثيل القربان الكوني على الأرض؛ هو النار الإلهية التي أحلَّت النظامَ في "العماء" Chaos في أول هذا الدور الحالي من التجلِّي الكوني والتي سوف تحرق كلَّ شيء وتلتهمه في آخره لتعيده إلى الأصل الذي انبثق منه (من هنا رمزية المجيء الثاني للمسيح). فعلى صليب المسيح نقرأ الحروف الأربعة الأولى من لقب "يسوع المسيح ملك اليهود" INRI، التي يجب أن تُقرأ باطنيًّا هكذا: Igne Natura Renovabitur Integra، وهي عبارة لاتينية تعني: "الطبيعة بأسرها ستتجدد بالنار".
[24] راجع في العهد الجديد: أعمال الرسل4: 12؛ رسالة بولس الرسول إلى القولوسيين 1: 15-20؛ رسالته إلى العبرانيين 1: 3-4.
[25] نلاحظ الشبه مع شروط الانتساب إلى الفِرَق الماسونية فيما بعد: "الأحرار ذوو الخلق الحسن".
[26] عملاً بعبارة هرمس "المثلث بالحكم"، سيد الخيميائيين أجمعين: "ما هو تحت شبيه ما هو فوق، وما هو فوق شبيه ما هو تحت."
[27] نجد في التصوف الإسلامي هذا التمييز عينه بين "الصوفي" أو "العارف بالله"، المتحقق بكمال إنسانيته، وبين "المتصوف"، السائر على درب هذا التحقق.
[28] نذكر أيضًا من أسماء خيميائيي القرنين الخامس عشر والسادس عشر: جان تريثيم Jean Trithème وهنريكوس كورنيليوس أغريپا Henricus Cornelius Agrippa وثيوفراستوس بومباستوس فون هوهنهايم Theophrastus Bombastus von Hohenheim، الملَّقب بپاراكلسُس.
[29] يُرمَز إلى الدرجة 18 في الماسونية برمز روزكروشي هام هو البجعة (من رموز المسيح) التي تفتح صدرها لتغذِّي فراخها من دم قلبها (انظر الشكل)، مما يذكِّر بأن التضحية الطوعية والكاملة تشكِّل ركنًا هامًّا من أركان الوردة + الصليب.
[30] من المنظمات الأخرى التي شاعت آنذاك "أخوية المستنيرين الآسيويين" Frères illuminés de l’Asie التي نستنتج من كلام السيدة بلاڤاتسكي عليها أن أحد أفرادها وآخرهم كان الكونت كاليوسترو Cagliostro، الأمر الذي يفسِّر الأصول المشرقية لأفكار هذا الأخير.
[31] يجدر بنا أيضًا ذكر أسماء ثلاث شخصيات تتصل أسماؤها بهذا المحفل. فمن بينهم يستحق يوزف شليسنغر تخصيص بحث له بمفرده، ليس هاهنا مجاله. أما الآخران، ڤولنر وبيشوفسڤردر، فهما أكثر شهرة. فبعد انضمامه إلى "فرسان الهيكل"، انضم J.R. Bischoffswerder إلى "وردة الصليب الذهبية – النهج القديم"، ثم أدخل إليه كاهنًا مغمورًا هو J.C. Wöllner، ومعًا ضمَّا إلى جمعيتهما فردريش غليوم، ولي عهد پروسيا. وفي 8 آب 1781، بفضل عمليات سحرية خاصة، قام بيشوفسڤردر في قصر شارلوتنبورغ، وسط رعود وبروق، باستحضار "أرواح" ماركوس أوريليوس ولايبنتس وسواهما! وهذا حدث هام سياسيًّا، لأنه حين اعتلى فردريش غليوم الثاني عرش پروسيا في العام 1786، عين معلمَيه ڤولنر وزيرًا للدولة والأوقاف وبيشوفسڤردر وزيرًا للحربية. وفي تلك الفترة، بالتزامن، احتجب المحفل، ربما لأن معلمَيه لم يعودا في حاجة إليه لبلوغ مآربهما!
[32] تأسيس تنظيم باطني حقيقي لا يتم بدافع نزوة من شخص أو أشخاص، كما بتنا نشهد اليوم. فهناك فحص حاسم من شأنه يجعلنا نعرف ذلك: العناصر التي يقوم عليها التنظيم النقلي الباطني أو العرفاني، بشعائره وأسراره، ليست من ابتكار شخص، بل توجد قبله ويتعذر تحديد مصدرها وتاريخ ظهورها. من هنا لا نجانب الصواب حين نقول بقول رونيه غينون إن الرمزية النقلية من مصدر ميتافيزيائي. "المسارَرة" Initiation أو تلقين الأسرار يتم من المرشد إلى المريد عبر سلسلة غير منقطعة تغيب أصولها في غياهب التاريخ – ولهذا الكلام تتمة في الجزء الثاني من المحاولة.
الوردة + الصليب
أكرم أنطاكي
و
ديمتري أڤييرينوس
" من الذي زفَّ الورودَ إلى الصليب؟"
– ڤولفغانغ فون غوته، "الأسرار" (قصيدة باطنية غير منتهية)
"وكنتَ تعلِّم الآخرينَ في أمور تجهلها..."
– أنسي الحاج
1. بلا مقدِّمات
سنتناول في هذه المحاولة قصةً من نوع خاص. سنحدثكم عن موضوع من أكثر المواضيع غموضًا في التاريخ الباطني لأوروبا وللإنسانية بعامة: قصة "جمعية" يقال إنها وُجدت، ونُسِبَتْ إليها كتابات، وكُتِبَ حولها الكثير، كما نُسِبَ إليها عددٌ من خيرة فلاسفة هذا العالم وعلمائه وأدبائه. لكن، في الوقت نفسه، ليس في وسع أحد إلى الآن، ولن يكون في وسع أحد في المستقبل، أن يثبت في دقة حقيقة وجودها و/أو صحة ما و/أو مَن يُنسَب إليها. فالموضوع مازال، إلى يوم الناس هذا، إشكاليًّا من حيث "واقعيته"...
لأن هذه القصة أسطورة، كما قال بعضهم ومازال يردد. وهذا صحيح ربما، ومنطقي إلى حدٍّ كبير. فهي، كما يقال، أسطورة اخترعها بعض النوابغ من العظماء المستورين في عالمنا – قصة ذكية، جميلة، ومحكمة في ترابطها وعمقها، إلى حدِّ أنْ صدَّقها الكثيرون بعيد اختراعها، وباتوا يتعاملون معها كحقيقة وكواقع قائم، كان ولم يزل...
لأنها واقع، كما قال بعضهم الآخر ومازال يردد – وهذا صحيح أيضًا ربما، ومنطقي أيضًا إلى حدٍّ كبير: صحيح من خلال عمق الأثر الذي تركتْه هذه الجمعية–الفكرة التي لم تأتِ من فراغ؛ ومنطقي لأن ما نُسِبَ إليها من كتابات كان ومازال يستحق عميق التأمل، كما ولأن مَن نُسِبَ إليها من أشخاص لا يمكن لنا المرورُ بهم مرور الكرام بأيِّ شكل من الأشكال. لذلك...
سنتناول في محاولتنا المشتركة هذه قصة هذه "الأسطورة الواقعية" إن شئتم، أو هذا "الواقع الأسطوري" إن لم تشاءوا، داعين كلَّ مَن يهمه الأمر، إلى التفكر والتأمل، بعينَي عقله وقلبه، فيما تطرحه من آفاق أمام إنسانيتنا الحالية.
وهذه القصة، الواقعية وغير الواقعية في الوقت نفسه، الحقيقية وغير الحقيقية في آنٍ معًا، هي قصة ما عُرِفَ بأخوية الوردة + الصليب[1].
2.في التأريخ والقضية
لأن القضية – وهي فعلاً "قضية" كما قدَّمها لنا المؤرخون – ولدت ما بين عامَي 1614 و1616، حينما صدرت في مدينة كاسل الألمانية ثلاثة مؤلَّفات قيل إن صاحبها قس لوثري من مدينة ستراسبورغ يدعى يوهان ڤالنتينوس أندريا[2]. وهذه المؤلفات كانت:
– "الإصلاح الشامل العام للعالم بأسره"، ويليه الـFama fraternitatis des löblichen Ordens des Rosencreutzes، أي "سيرة أخوية الوردة + الصليب الغراء"، الموجهة "إلى جميع علماء أوروبا وزعمائها"، الذي صدر في العام 1614: وهو يلخص سيرة حياة شخص يُدعى كريستيان روزنكرويتس Christian Rosenkreutz.
– والـConfessio fraternitatis R.C.، أي "إفشاء عقيدة أخوية الوردة + الصليب"، الذي صدر في العام 1615: وهو عبارة عن دفاع مدبَّج ضد الاتهامات بالهرطقة والتدخل السياسي الهدام التي وُجِّهَتْ إلى الأخوية. والكتيب يَعِدُ بالكشف عن أسرار رائعة، وبالتنعم بالصحة والشباب والمعرفة، وبنوال القدرة على الاتصال بالأرواح العليا، إلخ، وبأن الله سوف يعيد إلى البشر، قبل حلول يوم الدين، نور آدم الأول وبهاءه اللذين أضاعهما بسقوطه. ويذكِّر النص بالأخويات الخيميائية العديدة المنتشرة في القرن الخامس عشر ويعيد إلى الأذهان جميع المباحث الروحية الهامة آنذاك: سلطان الروح على المادة، التجدد الداخلي بالروح القدس، إلخ.
– والـNoces chymiques de Christian Rosenkreutz en l’an 1459، أي "عرس كريستيان روزنكرويتس الخيميائي في العام 1459"، الذي صدر في العام 1616 بالألمانية.
وهي عبارة عن ثلاثية باطنية تتحدث عن "أخوية" افتراضية يقال إن مؤسِّسها كان فارسًا أسطوريًّا يدعى كريستيان روزنكرويتس، الذي يوحي اسمُه ولقبُه، على التوالي، بمسيحيته أولاً، وبما سيُعرف من بعدُ اسمًا لهذه الجمعية، ثانيًا.
وقد أدى نشرُ هذه الكتب السرَّانية الثلاثة، إذا ما قيس إلى الظروف التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك – وأهمها التمرد اللوثري على الكنيسة الكاثوليكية – إلى ازدهار واسع للمناحي الصوفية والباطنية في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وإنكلترا. لكن الأمور لم تكن قطعًا بهذا الوضوح ولا بتلك البساطة...
حيث سرعان ما تعرضت هذه الأخوية إلى حملة هجومية تشويهية واسعة على يد أولئك الذين لم تَرُقْ لهم مفاهيمُها. وعلى رأسهم كانت، طبعًا، أغلبية الجمهور المسيحي بقيادة اليسوعيين والكنيسة الكاثوليكية. وكان هذا، ضمن الأجواء السائدة آنذاك، منطقيًّا ومفهومًا أيضًا.
ففي صباح يوم من أيام شهر آب من العام 1623، مثلاً، كما نقل لنا غبرييل نوديه – وهو كاتب وناشر من تلك الأيام – في كتيِّبه مدخل لفرنسا إلى حقيقة تاريخ إخوان وردة الصليب[3]، استيقظ الباريسيون ليقرؤوا منشورات أُلصِقَتْ على عجل على جدران أحيائهم وساحاتهم، جاء في بعضها، على سبيل المثال:
إنَّا، نحن معتمَدو المجمع الرئيسي للوردة + الصليب، المقيمون، بمشيئة العليِّ الذي تتوجَّه إليه توجهًا منظورًا وغير منظور قلوبُ أبرار هذه المدينة، جئنا لنبيَّن ونعلِّم، من دون كتب وبلا مواربات كلامية، لغات جميع البلدان التي نرغب في الإقامة فيها، من أجل أن ندرأ خطيئةَ الموت عن إخوتنا في البشرية.[4]
كما جاء في بعضها الآخر، وفقًا لنشرة أخرى كُتِبَتْ بالأسلوب نفسه ونُقِلَتْ عن كتيِّب مغفل التوقيع يربط هذه الأخوية والمنتسبين إليها بالشيطان، بعنوان التحالف المروع بين الشيطان واللامرئيين المزعومين[5]:
إنَّا، نحن معتمَدو مجمع الوردة + الصليب، نبلِّغ جميع الراغبين في الانتساب إلى جمعيتنا أننا سنلقِّنهم، بمعرفة كاملة من العلي، ذلك العهد الذي يُعقَد اليوم عليه مؤتمرُنا، وأننا سنجعل منهم، كما نحن تمامًا، مرئيين–غير مرئيين أو غير مرئيين–مرئيين معًا، كما أننا سننقلهم إلى جميع البلدان الأجنبية التي يرغبون في زيارتها. لكن، للتعرف على هذه العجائب، ننبِّه القارئ أيضًا إلى واقع أننا نقرأ أفكاره. لذلك، إنْ راودتْه فكرةُ رؤيتنا بدافع من الفضول فقط، فإنه لن يتمكن من الاتصال بنا على الإطلاق. أما في حال حملتْه إرادتُه على تدوين اسمه في سجلِّ جمعيتنا، فإننا، نحن الذين نقرأ الأفكار، سنبيِّن له صدقَ ما نعد به، من دون إفشاء مكان إقامتنا، لأن الأفكار، حين تتَّحد مع الإرادة الحقيقية للقارئ، كفيلة بأن تعرِّفنا إليه كما هي كفيلة بأن تعرِّفه إلينا.[6]
ويتابع هذا الكتيب، فيبيِّن أيضًا أمورًا أخرى، في جملتها أن "عدد اللامرئيين هو 36" وأنهم "موزعون حول العالم على مجموعات تتألَّف كل واحدة من ستة أشخاص"، وأنهم أيضًا (أي اللامرئيين) "عقدوا جمعية عامة يوم 23 حزيران 1623 في مدينة ليون الفرنسية"، وأن هذا الاجتماع كان بقيادة "ساحر ومستحضر أرواح" nécromancien شيطاني، وفيه تمت مُسارَرةُ مَن التحق بالجمعية من مريدين جدد، إلخ[7].
ونسجل هنا، ضمن السياق نفسه، حدة الهجوم الذي تعرضت له "الأخوية" آنذاك من قبل الكنيسة واليسوعيين، كالأب غولتييه، مثلاً وليس حصرًا، الذي قال في كتاب له بعنوان جدول زمني لحال المسيحية منذ ميلاد يسوع المسيح، في فصل خصَّصه للأخوية، إن جمعية الوردة + الصليب هي مجرد
[...] ملَّة سرية، موجودة منذ فترة في ألمانيا، ولا نملك حولها بعدُ ما يكفي من المعلومات. وهذه الملَّة تبث سمومها سرًّا، متجنبةً أن يتم التعرف إليها.[8]
مما يؤكد أن هذه الجمعية لم تقابَل بالترحيب في الأوساط الكاثوليكية الأوروبية حينئذٍ، وأنه، على الرغم من كلِّ ما كُتِبَ حولها، لم يُعرَف عنها الشيء الكثير. لذلك، ولتلمُّس بعض الحقيقة في الأمر، ربما كان من الأجدى التمعن قليلاً فيما كتبتْه هذه "الجمعية" عن نفسها، سواء بقلم القس يوهان فالنتينوس أندريا Johann Valentinus Andreæ أو بقلم سواه[9]. ونقصد، أولاً وقبل كل شيء، الكتب الثلاثة المنسوبة إليها، مبتدئين بـ...
3. Fama fraternitatis أو "سيرة أخوية الوردة + الصليب الغراء"
والسيرة أو الـFama، كما سندعوه ضمن سياق بحثنا، هو رسالة مفتوحة إلى "القلوب الطاهرة"، تبدأ بعبارة تقول:
إنَّا، نحن أخوة أخوية الوردة + الصليب، نهدي سلامنا، ومحبتنا، وصلواتنا إلى كلِّ مَن سيقرأ قصتنا هذه بروح مسيحية.
ثم، بعد مقدمة وعرض عام لمعرفة العوالم الكبرى والصغرى، تروي لنا قصةَ مؤسِّسها الأسطوري، الأخ الفارس والروحاني الكبير، الذي لا تذكر اسمه، إنما تكتفي فقط بتعريفه بحرفَي C.R.، الذي كرَّس حياته كلَّها لمحاربة الشر في عالمنا – هذا الفارس الذي ولد في العام 1378 لأسرة فقيرة شريفة الأصول، وعُهِدَ به في سنِّ السادسة إلى دير تعلَّم فيه بعض اليونانية واللاتينية وتلقَّى فيه أيضًا بعض مبادئ السحر[10]. وهذا التعليم، إن لم نقل هذه المُسارَرة الأولى، دفعته عند بلوغه سنَّ السادسة عشرة إلى القيام برحلة حج إلى الأرض المقدسة برفقة صديقه الأخ P.A.L. الذي لم يكمل الرحلة معه، إنما توفي على الطريق في جزيرة قبرص، الأمر الذي أجبر صاحبنا على متابعة رحلته وحيدًا. وإذ وصل الشاب بمفرده إلى الشرق الأدنى، سعى إلى التواصل مباشرة مع حكماء "دَمْكَر" في اليمن. ثم اتفق له أن مرض، مما اضطره إلى اللجوء إلى دمشق للتداوي. وفي دمشق، عالجه أطباؤها، واختلف إلى حكمائها الذين تعلَّم على أيديهم أصول الحكمة والعلوم، وبقي فيها ثلاث سنوات، قام إبانها بترجمة كتاب العالم Liber mundi، الذي أعطاه منظورًا شموليًّا إلى الكون. ثم، بعد أن تلقَّى مسارَرته في دمشق، سافر من الشرق الأدنى غربًا إلى مصر، ثم إلى ليبيا، ثم مضى إلى مدينة فاس المغربية التي عُرِفَتْ أيضًا، شأنها شأن دمشق، بعلمائها وحكمائها، فبقي فيها سنتين مكَّن إبانهما تعليمه الباطني على أيديهم، تلك التعاليم التي عمَّقت فهمه لمعتقده الداعي إلى وضع أفضل الأسُس لعالم قائم على التناغم. وما أوصلنا إلى استنتاج كهذا هو واقع أن الـFama يتكلم بكلِّ صراحة، مقارنًا بين ما كانت عليه في تلك الأيام أوضاعُ السرَّانيين في الغرب من تشتت وتكتُّم وتنافُر فيما بينهم وبين أوضاعهم في الشرق، حيث كانت المعرفة الحق تُمنَح لكلِّ مَن يطلبها بإخلاص ويستحقها عن جدارة، مما أوحى إليه بفكرة إنشاء "أخويته".
ثم يحدثنا الـFama، الذي يمكن لنا اعتباره بحق إنجيل[11] جماعة الوردة + الصليب، عن مسار "الأب" C.R. الذي عُهِد إليه أن يعود إلى أوروبا ليؤسِّس هناك أخوية سرانيَّة الغاية منها نشر الحكمة المشرقية في "بلاد النصارى"، فتوجَّه أول ما توجه إلى إسبانيا التي لم تقبل به، ففشل في تأسيس أخويته ونشر دعوته هناك؛ مما دعاه إلى العودة إلى بلده ألمانيا، حيث عكف ناسكًا خمس سنوات من العزلة، ثم، بمعونة أصحابه، وخاصة منهم ثلاثة إخوة لا يذكرهم الـFama إلا بأحرف أسمائهم الأولى[12]، تم وضع أسُس ذلك "البنيان الجديد للروح القدس"، وتقرَّر توجيه الدعوة إلى مزيد من الإخوة. فكان في تلك الفترة تدوين ما عُرِفَ بـكتاب رغبات الإنسان، وكان إرسال الإخوة الذين شكلوا مجامعهم السرَّانية في مهمات حول العالم بهدف التعلم، كما كان وضع "الأب" C.R. "دستور" أخويته الذي يمكن لنا تلخيصه بما يلي:
1. ينذر الإخوة البتولية والتخلِّي عن الشهوات الجسدية وعن كلِّ مستقَرٍّ ثابت.
2. تكون الصنعة الوحيدة التي يمتهنها الإخوة علنًا هي الطبابة وشفاء المرضى بلا مقابل.
3. يتكيف الإخوة في كلِّ مكان يقيمون فيه مع عادات البلد وتقاليده ويلبسون أزياءه.
4.يجتمع الإخوة كلَّ عام في اليوم ج. في هيكل الروح القدس في المكان الذي يحدِّده لهم الروح.
5.يختار كل أخ خليفته في حال حضرتْه الوفاة.
6. تكون الوردة + الصليب شعارًا ورمزًا للأخوية.
وفي عامه السادس بعد المائة، توفي الأب روزنكرويتس في Engelland، كما يصرح النص الألماني الأصلي. واسم المكان يعني حرفيًّا "بلاد الملائكة"، وهو تلاعب لفظي رمزي قد يشير إلى إنكلترا، لكنه ليس بلدًا بعينه قطعًا[13].
ويموت الإخوة الأوائل أيضًا، بحسب ما يذكر الـFama، ويخلفهم مَن يخلفهم على الطريق، أولئك الذين يعاودون، بعد انقضاء 120 عامًا على وفاة معلِّمهم الأول، اكتشاف ضريحه – ذلك الاكتشاف الذي نتوقف عنده قليلاً متفكرين...
فـ"الأب" المؤسِّس كان قد تنبأ بالحدث: إذ وجدوا كتابةً منقوشةً على الباب السري للمدفن بحروف كبيرة: Post CXX Annos Potebo، أي "سوف أُكتشَف بعد مائة وعشرين عامًا". ويمضي الكتاب في وصف دخول الإخوة إلى الضريح الرمزي:
فتحنا الباب صباحًا، فوجدنا قبة ذات سبعة أضلاع وسبع زوايا، طول كلِّ ضلع منها خمسة أقدام وارتفاعها ثمانية أقدام. ومع أن الشمس لم تُنِرْها قط فقد كانت تشع بفضل شمس أخرى تلقَّت نورَها الباهر من منزل شمس الأعالي في المركز.
وقد زُيِّنَتْ جدرانُ قاعة المدفن بمكتبات تحتوي على نفائس الكتب السرَّانية، التي من أهمها قاموس السحر لپاراكلسُس، وفي وسطها مذبح نُقِشَ عليه باللاتينية بأحرف من ذهب: "جعلت من هذا الضريح ملخصًا للكون"[14]. والسقف تزيِّنه خمس دوائر، أربع منها على شكل صليب والخامس يحيط بالأربع، دوائر نقرأ في وسط كلٍّ منها عبارة من العبارات التالية:
Nequaquam vacuum
Legis jugum
Libertas Evangelii
Dei gloria intacta
ما نترجمه على التوالي بـ: "لا فراغ في أي مكان"، "نير الناموس"، "حرية الإنجيل"، "مجد الله لا يُمَس". لكن أهم هذه العبارات – العبارة الخامسة التي يُختتَم بها الـFama – هي بلا ريب:
Ex Deo Nascimur
In Jesu morimur
Per Spiritus Sanctum revivicimus
وهي تعني: "من الله نولد، في يسوع نموت، وبالروح القدس نُبعَثُ من جديد"، التي أصبحت شعارًا للأخوية. ونكتفي هنا بهذا القدر من العرض، لننتقل إلى الكتاب الثاني، أي إلى الـ...
4. Confessio fraternitatis R.C. أو "إفشاء عقيدة أخوية الوردة + الصليب"
وقد صدر هذا المنشور في العام 1615 كملحق للطبعة الثانية من الـFama. وكان ما تميز به، بادئ ذي بدء، هو التعريف باسم مؤسِّس الجمعية: Christian Rosenkreutz الذي قيل إنه ولد في العام 1378 وعاش قرابة المائة وستة أعوام.
وهذا الكتاب، كتتمة للكتاب الذي سبقه، هو أيضًا رسالة خوف وأمل: خوف مشروع، ربما، نابع من الحالة الراهنة للإنسانية، وأمل من خلال رسالة تدعو إلى فلسفة "مسيحية" حق وإلى تقدُّم المؤمنين بها عن طريق "منهاج حياة" كان موجودًا دومًا ولا يسير عليه إلاَّ الإنسان الحق. ومن خلال هذا الكتاب، يعلن الكاتب في وضوح نهاية المحمدية والكثلكة وحلول دور جديد من الوحي، لأنه...
[...] بعد أن يصحو العالم من سكرته التي شربها من الكأس المسمومة، سيمضي الإنسان لملاقاة الشمس المشرقة، عند الصباح الباكر، بقلب مفتوح، مكشوف الرأس وحافي القدمين، منتشيًا يملؤه السرور.[15]
لذلك،
من الضروري الآن أن يتقهقر كل ضلال وعتمة وعبودية استولت تدريجيًّا على علوم البشر وأعمالهم وحكوماتهم [...] بحيث إن غالبية البشر أظلموا. [...] غير أنه ليس ثمة بنظرنا إلا فلسفة واحدة، ألا وهي تلك التي تتوِّج جميع الملَكات والعلوم والفنون. وهذه [الفلسفة] تشمل بالأخص، فيما يتعلق بقرننا، علومَ اللاهوت والطب، وقبل كلِّ شيء، علم القانون؛ إنها فلسفة تسبر أعماق السماء والأرض بمعونة فنٍّ تحليليٍّ ممتاز أو، بكلمة واحدة، تعبِّر أساسًا عن أن الإنسان عالم صغير.[16]
ونسجل هنا تطابُق الـConfessio مع الـFama من حيث المضمون. لكننا، إلى ذلك، نلحظ في الـConfessio تأكيدًا أكثر على ما يتصوره نهايةً للعالم ووضوحًا أكبر فيما يطرحه من منحى مناهض للبابوية من خلال الحديث المفصل عن "إصلاح" مفترض، لأن ما تبغيه هذه الأخوية المؤسَّسة بوحي من الروح هو استعادة عصر السعادة الذي سيحل محلَّ الليل الشيطاني السائد. عندئذٍ سيُكشَف عن جميع الأسرار، سيختفي الكذب، ويتلاشى كل زيف. كما ستعرض الأخوية إذ ذاك على الملأ ما بقي مستورًا من عقيدتها.
ولأنها تريد أن تكون على علاقة طيبة مع السلطات الزمنية، ترفع الأخوية إلى رئيس هذه السلطات – وكان آنذاك رأس الإمبراطورية الرومانية – صلواتها وأسرارها وكنوزها كلَّها، مؤكدةً على أن العلم وحده لن يخلِّص العالم، بل، على العكس، سيقوده نحو المزيد من الغرور. وأيضًا...
شاء الإله أن يضيء للإخوة مشعلاً سادسًا يريهم العجب، لأنهم لن يعرفوا بعده الجوع ولا الفقر ولا المرض، كما أن أعمارهم ستطول إلى ما لانهاية. كما سيُتاح للإخوة أن يتواصلوا مع بلاد الهند، كما ومع الپيرو (أي بلاد الإنكا)، وسيتمكنون من القراءة في كتاب واحد يتضمن كلَّ ما كُتِبَ في الماضي وما سيُكتَبُ في المستقبل. وعن طريق الموسيقى، سيحولون الصخور إلى أحجار كريمة، ويخترقون قلب إله الجحيم (پلوتون)، كما وقلوب عظماء هذه الدنيا. فالإله شاء أن يقدِّم للعالم، وهو على مشارف نهايته، ما يحتاج إليه من نور وحياة رغيدة تضاهي تلك التي عرفها آدم قبل "الخطيئة الأصلية".
ولأن هذه النهاية أضحت وشيكة، يحث الـConfessio قرَّاءه على التمعن في الكتاب المقدس، ذلك الكتاب "الأروع، والأكثر خلاصًا، والأجمل، الذي أتيح للبشر أن يقرؤوه منذ كان هذا العالم"، كما ويحثهم أن يسترشدوا به في حياتهم، لأنهم بهذا سيتواصلون مع روح الأخوية. ذلك لأن عليهم أن لا يعلِّقوا الكثير من الأمل والرجاء على الإصلاحات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية: فخلاص الإنسان يكون من داخله، ويرتبط بمقدار نكرانه لذاته، كما يرتبط بصفائه، ومحبته لأخيه الإنسان. فالشخص المتعاطف مع آلام البشر وعذاباتهم هو الأقرب إلى الله الذي سيكافئ المتواضعين ويستبعد المتكبرين: فالله يُسمِعه صوتَ ملائكته. وأيضًا...
يعطي الـConfessio بعض شروح ذات علاقة بأهداف أخوية الوردة + الصليب وروحها. فهي ذات تراتبية معينة، وهي، من أجل القيام بأعمالها، تضم صغار الناس إلى جانب عظمائهم وعلمائهم، إنْ كانوا جديرين بذلك. كما أنها "غنية جدًّا"، حيث تمتلك من الثروات و"الذهب" أكثر بكثير مما يمكن تصوره – مشيرين هنا إلى أن الـConfessio كان ينظر إلى الخيمياء كقوة شافية بمقدورها تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، كما بمقدورها أيضًا معالجة البشر وشفاؤهم. ونتوسع هنا قليلاً لنشرح بعض الشيء مفهوم...
5. الخيمياء من منظور سرَّاني...
لأن للخيمياء القديمة، التي هي كما نعلم أم الكيمياء الحديثة، وجهين ليسا بالضرورة متعارضين: حيث الوجه الأول مادي وملموس، بينما الوجه الثاني فلسفي وروحاني؛ أو لنقل إن الوجه الأول هو الظاهر، أي ذلك الذي يمارَس في المختبَر ويبتغي فهم قوانين الطبيعة والتأثير عليها، بينما الوجه الثاني أو الباطن هو ذلك العمل الفلسفي والروحاني الذي يتعاطى مع النفس البشرية – وهذا الجانب قد يكون الأهم...
فالخيميائيون الحقيقيون، أو "فلاسفة النار" كما كانوا يُدعون، غالبًا ما كانوا يتكلمون في مؤلَّفاتهم على أولئك الذين "يُحيون اللهب" في قلب ما يدعونه "بيت النار" أو "التنور" Athanor طلبًا للذهب – ما قد يوحي للوهلة الأولى، ربما، بالوجه المادي الجشع للنفس البشرية. لكن ما يعمل الخيميائي عليه، ويسعى لاستخلاصه في الحقيقة، هو "المادة الأولية" Prima matæria – وهذه، من منظور فلسفي روحاني، هي "النفس البشرية".
ومع هذا الانقلاب في المفاهيم، سرعان ما يتحول كل شيء إلى رمز، ويصبح "التنور" هو الجامع بين الجسم المادي وباقي المواد غير الملموسة التي تمكِّنه من الحياة وتؤمِّن له، بالتالي، إمكان التواصل مع الشرارة الإلهية أو الروح فيه؛ ويصبح المختبَر رمزًا للحياة الإنسانية، حيث يتاح للنفس – التي هي المعدن الخسيس المختلط بالشوائب – إمكانُ التخلص من شوائبها والتحول إلى "ذهب".
ونسجل هنا أن الخيمياء، كما ينظر إليها جماعة الوردة + الصليب، ليست فقط مجرد عملية تحويل للشخصية الإنسانية، بل هي تركز أساسًا على العلاقات القائمة بين الإله والإنسان والطبيعة. فالمعرفة، وفق "كتاب الطبيعة"، تتعارض مثلاً مع ذلك المفهوم المادي الذي كان سائدًا ويتصور الكون مؤلفًا من مجموع ذراته. والمعرفة الحق تؤكد أول ما تؤكد على التناغم بين الإنسان[17] وبين الكون، أو لنقل بين "العالم الأصغر" Microcosm و"العالم الأكبر" Macrocosm.
والفلسفة، من منظور جماعة الوردة + الصليب، تمعن في دراسة ما تعتقد أنه العلاقة بين السماء والأرض: فالإنسان في نظرها هو العالم الأصغر الذي هو، في حدِّ ذاته، صورة عن الكون أو العالم الأكبر ومختصر جامع له. والتلاقي بين هذين البعدين هو ما يرمز إليه الصليب الذي تكمن في قلبه الوردة عند تقاطُع فرعَيه[18].
فالوردة، من منظورهم، هي "التنور"[19]. وبالتالي، يصبح الهيكل الذي بناه المعلِّم والفارس الأسطوري كريستيان روزنكرويتس وأسماه "مقام الروح القدس" هو المكان الذي يرمز إلى المختبَر، حيث تتلقى النفس البشرية العلوم التي تعينها على الخلاص. وهذا ما يبيِّنه في وضوح أكبر الكتاب الثالث، أي...
6. "عرس كريستيان روزنكرويتس الخيميائي" Noces chymiques de Christian Rosenkreutz
وهو الكتاب الوحيد الذي تبنَّى القس أندريا تأليفه، مدعيًا أنه كتبه حين كان شابًّا في السادسة عشرة من عمره[20]. ويقدم لنا هذا الكتاب، من خلال قصة مشوقة، المسار الرمزي والباطني لبطلنا الذي كان في حال تأمل عندما باغته في رفق، على خلفية صوت بوق "كأنه ينبئ بالقيامة"، ظهورُ ملاك على هيئة صبية جميلة في ثوب أزرق اللون "تأتيه لتضع على منضدته رسالةَ دعوة ممهورةً بخاتَم الخيميائيين تدعوه إلى حضور حفل عرس الملك". ويتهيأ بطلنا، فيلبس ثوبه "المزين بإشارة الصليب" وقبعته التي زيَّنها بأربع ورود، ويذهب لحضور عرس الملك.
ونتفكر في ماهية هذا الكتاب – الطريف كالجنون والجميل كالحلم! – الذي يقص علينا، عن طريق الرموز والإشارات، تدرُّج بطلنا، ذلك الإنسان الحقيقي البالغ من العمر عتيًّا (81 عامًا يومذاك)، على طريق الوحي – ذلك البطل الذي سرعان ما سيجابه، في أول الغابة التي توجَّه نحوها، امتحانه الأول. فقد كان عليه
[...] أن يختار بين ثلاث طرق: طريق أول قصير، لكنه وعر وخطير جدًّا، والطريق الثاني الملكي الذي لا يسلكه إلا المصطفون، وطريق ثالث طويل وآمِن سيوصله إلى هدفه بعد ألف عام.
... ما يعني أنه قد لا يصله أبدًا! ويُبلَّغ بطلُنا قبل القيام بخياره أنه لن يكون بوسعه التراجع بمجرد أن يتخذ قراره. إذ ذاك يترك فارسُنا للقدر أن يدلَّه على الطريق، و"يدخل الغابة"، متابعًا طائر بوم كان يلاحق حمامة بيضاء لكي ينقذ هذه الحمامة، مما يؤدى إلى فقدانه لقارورة دواء كان يحملها. لكنه يستودع نفسه بين يدي
[...] الخالق الذي جَعَلَه يختار عن غير وعي منه الطريق الملكي – هذا الطريق الذي أوصله، بعد طول عناء، إلى ذلك الجبل حيث كان يقوم قصر الملك [...]
فيتسلَّقه في صعوبة، ويصل إلى
[...] بابه الذي كان على وشك أن يُغلَق مع حلول الليل، فيستقبله حارس ودود طيب، أحنى ظهره التواضعُ والسنون [...]
ويُدخِله إلى القصر، لتستقبله هناك تلك الصبية نفسها التي دعتْه إلى الحفل والتي تقوده عبر ساحة واسعة إلى "المقام الملكي".
وهناك، يعبر كريستيان البوابة الثانية التي ينتصب على جانبيها تمثالان – الأول ضاحك والثاني باكٍ –، وفوق الباب عبارة منقوشة تقول: "أعْطِ تُعْطَ". وهناك يجد أناسًا كثيرين جاءوا إلى العرس مثلما جاء؛ وأغلبهم كان وصل عبر "الطريق الملكي" نفسه الذي سلكه هو، لكنهم، لم يكونوا جميعًا من الأطهار. وتظهر الصبية من جديد
[...] وهي تسير بخطى راقصة وتلبس ثوبًا أبيض مذهبًا ومشعًّا إلى حدِّ أنك تكاد لا تستطيع أن تنظر إليه: ألف نجمة صغيرة جعلت هذا الليل الدامس أشد نورًا من الشمس [...]
فتخبر الحضور بأنهم سيواجهون في الغد الامتحان الأكبر الذي سيفرز الأبرار منهم من غير الأبرار. ويقضي الأبرار الحقيقيون، أولئك الجديرون بحضور الحفل،
[...] ليلة خشية وتخشع، فيصلُّون في قلب الظلمة متضرِّعين إلى الله كي ينجِّيهم.
ويأتي الغد، ويكون الامتحان الذي توزَن فيه النوايا والخصال، ويفوز روزنكرويتس الذي كان أطهر الجميع، فـ"يُخلى سبيلُه ويُستقبل بحفاوة"...
لأنهم قليلون جدًّا كانوا أولئك الذين اجتازوا الامتحان مثله، فالتحقوا به في الجانب الصحيح؛ أما الباقون الذين رسبوا وتجاسروا عن غير جدارة على دخول المقام الملكي، فقد حُكِمَ عليهم بالموت.
وتقدَّم "الجزة الذهبية" Golden Fleece هديةً للذين نجحوا في الامتحان، بينما نرى الآخرين، أي الإخوة الكذبة الذين حُكِمَ عليهم بالموت، يشربون "كأس النسيان" الذي قُدِّم لهم، ثم يُطردون من القصر إلى غير رجعة "إبان هذه الحياة".
وتطرح الصبيةُ على الناجين الذين نجحوا في الامتحان لغزًا معرفيًّا هو اسمها الذي تعرضه عليهم من خلال معادلة جبرية – معادلة كان الفيلسوف الرياضي لايبنتس Leibniz أول مَن حلَّها فيما بعد واقعيًّا، ليجد – ويا للخيبةَ – أن الاسم المطلوب كان كلمة "الخيمياء" Alchemia.
وتدخل عدة صبايا، إحداهن ترتدي لباسًا أزرق مرصعًا بنجوم ذهبية، تقودهم وهي "تنظر باستمرار نحو السماء" عبر باب صغير أعلاه مرصعٌ بتاج، فتعلمهم "أمجاد الخالق وعظمته وطُرُق التعرف إليها".
وفي اليوم التالي، يمثُل المختارون أمام الملك الذي يشكرهم على تلبية دعوته والمجيء إلى هذا المكان، "مخاطرين بحياتهم وأجسادهم"، فيقسمون أمامه بالوفاء وإلاَّ تعرضوا لأشد العقاب. وقرب الملك كانت تجلس "ملكة شابة في منتهى الجمال"، وعلى مقربة منها امرأة "عجوز محجَّبة، وفي خلفية القاعة كان كوپيدون يلعب"، بينما في مقابل الملك كان يوجد هيكل وُضِعَ عليه
[...] كتاب أسود التجليد، وكأس فيها ماء صافية ودامية، وجمجمة يخرج رأسُ ثعبان من أحد محجريها وذيلُه من المحجر الآخر.
بمجرد أداء القسم، تدوَّن أسماءُ المريدين في الكتاب الأسود، ما يذكِّرنا برمزية أسماء المختارين المدونة في "سِفْر الحياة" في العهد الجديد[21]. ثم يشرب المختارون مع الملك كأس "خمرة الصمت".
ثم تُجلَّل القاعة بالسواد، وتُعصَبُ عيونُ الملك والملكة، وتُعصَبُ معهم عيونُ أربعة ملوك – ملكان وملكتان – كانوا حاضرين في القاعة إلى جانبه. ثم تُجلَب ستة توابيت، ويأتي عبد في ثياب سود، فيضرب على التوالي الأعناق الملكية الست التي تكفَّن جثامينُها وتوضع في التوابيت مع رؤوس أصحابها، وإلى جانب كلٍّ منهم وعاء يحوي دمَه. ثم يُقتل العبدُ بمجرد الانتهاء من إعدام آخر الملوك على يد أحد أفراد الحاشية الملكية. وتنبئ الصبية الحضور الذي تملَّكه الرعب بأن حياتهم أصبحت الآن بين أيديهم وأنهم – إنْ تبعوها – سيكونون "أحياء أكثر".
وبين الحضور كان روزنكرويتس هو وحده الذي كشف السرَّ الكبير عندما شاهد التوابيت وهي تُنقَل في ظلمة الليل الدامسة إلى ظهر سفينة تتجه بها نحو جزيرة تقع في وسط بحيرة. أما الباقون – وكان روزنكرويتس معهم – فقد حضروا في اليوم التالي المراسم الخادعة لدفن الملوك الستة تحت شعار طائر الفينيق Phœnix. وتطلب الصبية من الحضور الوفاء بقَسَمهم والتوجه معها إلى "برج أولمپيا" الواقع في جزيرة في وسط البحيرة للبحث عن "الإكسير" Elixir الذي سيسمح بإعادة الحياة إلى الملوك من جديد.
ويركب الحضور السفينة التي تقودهم برفقة مرشدتهم إلى تلك الجزيرة وإلى ذلك البرج، أي إلى "برج أولمپيا" المكون من "سبعة أبراج، كل منها مبني في قلب الآخر، ويتألف كل برج من سبع طبقات". وهناك، يشاهد الحضور – كما ويساعدون على – القيام بعدة عمليات خيميائية تكون حصيلتها كرة نارية حمراء، تُستخرَج منها، بعد أن تبرد، بيضةٌ ينبثق منها طائر فينيق يُقتَل وتُحرَق جثته؛ ثم بواسطة رماده، وبعد ولوج الطبقة الأخيرة من البرج الأخير، تعود الروحُ إلى أزواج الملوك والملكات الستة، فيتحولون إلى الزوجين الملكيين القائمين من الموت على خلفية صوت حادٍّ لبوق يصدح.
ويعود الملكان إلى مملكتهما، وفي حضرتهما يقسم الحضور متعهدين بـ"الاستمرار في الجهاد في سبيل الطهارة". ثم يُكرَّسون "فرسانًا للحجر الذهبي"، فرسانًا وُهِبوا جميعًا القدرات التي تمكِّنهم من محاربة الجهل والفقر والمرض. ويعود الجميع من حيث أتوا، ماعدا روزنكرويتس الذي، بسبب خطأ طفيف ارتكبه قبيل توجُّهه إلى برج أولمپيا، اضطر إلى الحلول محلَّ حارس القصر العجوز الواقف عند البوابة الأولى كي ينتظر مثله، بكلِّ خشوع، مجيء ساعة الخلاص. ولقد قيل له إنه حصل على ما حصل عليه الآخرون، لكنه مازال مطلوبًا منه تقديمُ المزيد – بطلنا الذي وقَّع في النهاية، كالآخرين، على وصيته قائلاً:
إن أعلى درجات العلم هي أنْ لا تعرف شيئًا. الإمضاء: الفارس كريستيان روزنكرويتس، فارس الحجر الذهبي، العام 1459.
وبهذا تنتهي هذه القصة المذهلة التي قد يسخر بعضهم منها ومما قد يبدو لهم فيها من قبيل الخرافة الساذجة. لكنها جعلت الكثيرين – ونحن منهم – نقف فاغرَي الفم، متأملَين، حالمَين أمام عمق رموزها[22]. ونتفكر...
7. في السرَّانية الوردصليبية...
مع أخذنا في الحسبان التنويعات والتكيفات المتوالية للسرَّانية عبر العصور، بحسب الأمكنة والأزمنة والثقافات، ليتبين لنا أن خصائصها هي عينها الخصائص التي يتسم بها عمومًا التيار السرَّاني في الغرب.
بادئ ذي بدء، تقدِّم الأخوية نفسها بوصفها طريقة "مسيحية"، حيث المسيح هو المعلِّم المسارِر ومثال كلِّ كمال بشري[23]. ففي كتاب من تأليف يواكيم فريسيوس Joachim Frisius بعنوان Summum Bonum ("جماع الخير"، وأغلب الظن أنه من تأليف روبرت فلود) نقرأ:
الغاية الوحيدة والنهائية للسحر كما وللقبالة الحق إنْ هي إلا الحكمة، الكلمة، المسيح. فما من اسم آخر يُتوجَّه إليه بالدعاء إلا اسم يسوع، ما من اسم آخر، على الأرض أو في السماء، يكون به الخلاص لنا إلا اسم يسوع الذي تأتلف به الأشياءُ كلها، لأن يسوع المسيح هو الكل في الكل.[24]
هناك أيضًا مصنَّف ألماني موقَّع باسم فلورنتينوس البلنسي Florentinus de Valentia، هو عبارة عن رسالة صغيرة بعنوان Jhesus mobis omnia ("يسوع هو كل شيء لنا") نُشِرَتْ في فرانكفورت في العام 1617، جاء فيها:
أريد ألا أكون شيئًا، أن أصدِّق كلَّ شيء، أن أنزل عن نفسي لله كالطفل وأساوق بين إرادتي وإرادته، وأطلبه قبل كلِّ شيء، وأدع ملكوته يفعل فيَّ.
والمعراج السماوي الذي يتوق إليه الروزكروشي يعبِّر عنه روبرت فلود أجمل تعبير:
الروح التي تحرِّك الجسد تنزع إلى العروج كالشعلة نحو المنازل السامقة من الفضاء. فهناك موضع توقها وسعادتها. لماذا نكابد تعبًا عظيمًا حين نتسلق جبلاً؟ ألسنا بذلك نمضي في الطريق التي تسر الروح؟ ذلك أن الجسد المادي الذي ينزع في جوهره، على خلاف الروح، نحو مركز الأرض، ترجح كفته، نتيجة كتلته، على الشرارة التي تحرِّكنا. على الروح أن تستجمع قواها كلَّها لكي ترفعه معها وتحمل كتلة الجسد الثقيلة التي تكبِّلها على الامتثال لدافعها.
وإذا يبلغ المرءُ الإشراق الروحي، يصير في وسعه أن يتحرر من عواقب السقوط في المادة. تلكم غاية نجد تعريفًا ممتازًا بها في رسالة وضعها جان تريثيم Jean Trithème في العام 1500:
[...] العروج نحو هذا التناغم فوق السماوي، حيث لا شيء مادي وكل شيء روحي. فهناك الشبه وأصل الروح.
ومن أجل بلوغ هذه الغاية – الإشراق الخلاصي – على المرء أن يتطهَّر من غرائزه الحيوانية وأن يجتهد للتغلب على جميع نوازعه السلبية المحدودة. هاكم مقطع من كتاب Prognosticatis لپاراكلسُس يحدِّد غاية هذه الخيمياء الروحية، هذا المعراج:
كما الذهب والفضة، عليك أن تتطهَّر من أدرانك كلِّها وأن تُمتحَنَ أكثر من سبع مرات في سكينة نفسك بأشد من امتحان النار إذ تطهِّر الذهب والفضة من شوائبهما.
وفي رسالته الدفاعية Tractatus apologeticus (1617)، يحدد روبرت فلود ذلك بقوله:
الروح القدس لا يتنزَّل عليه [على الإنسان الدنس] قبل أن يتطهَّر مقر القلب والروح وينقَّى من الأدران كلِّها.
ويؤكد مؤلِّف وردصليبي آخر من الفترة نفسها – هو ڤالنتينوس تشيرنسن Valentinus Tschirenessen – في رسالة صغيرة نُشِرَت في دانتزش في العام 1617 بأنه لن يُقبل في الأخوية إلا المريدون الذين باتوا "سادة أجسادهم والرجال الأحرار"[25].
وبعد قبوله في الأخوية، إذا استطاع الروزكروشي أن يطهِّر نفسه، يجوز له أن يمضي قُدُمًا في درب التجدد الدائم، فيسمو في معراجه الروحي، ويعزِّز الصلة مع النواة الإلهية في سريرته – مرشده الداخلي –، وبذلك يتمكن من اكتناه رموز الكتابين العظيمين اللذين "كتبهما" الله: كتاب الطبيعة العظيم وكتاب الإنسان. وذلكم هو المبدأ الرئيسي في القلب من الطرُق السرَّانية كلها: المقايسة بين قوانين العالم الأكبر والعالم الأصغر[26]. وهكذا، بعد أن يحقق المريد المبدأ الهرمسي بالتحرر من جميع حدود الشرط البشري، فإنه يستطيع بلوغ تحقيق رمز الأخوية: وردة الصليب. إنه يصير وردة + صليب. ومَن يحقق ذلك هو الكائن الذي حقق الانعتاق وكمال إنسانيته. أما الذين لا يجرؤون على الأمل في بلوغ هذه الغاية المجيدة أو ليس لديهم الاستعداد لها، فيكتفون بالعمل مجتهدين على الطريق نحو النموذج البدئي للإنسان الكامل، فهم مجرد "روزكروشيين"[27].
وبعد بلوغ الطهر الكامل والتحرر الداخلي، يحقِّق "وردة الصليب" Rose-Croix في روحه العرس الإلهي المقدس بين القطبين المؤنث والمذكر في كيانه Hieros gamos، فـ"يعانق العروسُ عروسَه الحبيبة"، ويجعله الإشراق يسبر قلب الأشياء الخفي، فيمتلك العلم الكامل و"الحكمة الكلِّية" Pansophia، أي يصبح عارفًا متحققًا بالقوانين الكونية الإلهية المهيمنة على العالم، من جهة، وعلى الإنسان، من جهة أخرى. وسيعرف توالي الأدوار الأرضية، ابتداءً من انتظام ما يُعرَف بالعماء البدئي Chaos في النور الكوني (سر أيام الخلق الستة)، حتى "الحريق" الأخير الذي سيطهِّر الأرضَ ويجدِّدها قاطبة. وبهذا يستعيد الملَكات والقدرات التي أضاعها بعد السقوط الآدمي والتي تقوده إلى وعي دائم على مرتبة كيانه الروحي، نواته الداخلية فوق الشخصية والإلهية التي تتعالى عن الحدود الأنانية كلها. قد تهب العواصف من حوله، لكن هذا لن يعكِّر صفو تناغمه الداخلي وطمأنينته؛ إذ لقد بلغ غايته: "السلام العميق" Pax profundis.
أشرنا حتى الآن إلى ثلاثة أركان للسرَّانية الوردصليبية: المعراج، التضحية، المشاهدة. لكن هناك أركانًا أخرى: الوردة + الصليب طريقة سرَّانية شعائرية؛ فهي، في عبارة أخرى، تنتمي إلى التنظيمات السرية التي تتصف بطقوس مقدسة مخصصة للأفراد وحسب تمارَس في مكان محدد (هيكل، محفل). هناك مؤرخون ينفون عن الوردة + الصليب وجود الشعائر؛ لكنهم مخطئون نسبيًّا، إذ لا يميزون بين مرتبة وردة الصليب التي بلغ صاحبُها الكمال الإنساني، فتخطَّى بذلك جميع الأشكال والمظاهر والشعائر الظاهرية، وبين الروزكروشي الذي يجاهد على الطريق. فإذا لم نجد وصفًا صريحًا للطقوس في المصنفات، فمرد ذلك إلى حرمتها وانتمائها إلى مجال التعليم والتلقين الشفهي. غير أن كتاب العرس الخيميائي يفصِّل الشعائر، لكنْ بشكل رمزي: ففيه يوضح المؤلِّف الشعائر الملازمة لتلقين كلِّ درجة من الدرجات الروحية، وصولاً إلى أعلاها.
نختتم هذه العجالة بنصٍّ من كتاب روبرت فلود رسالة لاهوتية فلسفية Tractatus theologico-philosophicus:
انفتحت عيناي وفهمت، عبر جوابكم الموجز، ما أودعتموه – بإيعاز من الروح القدس، كما تقولون – اثنين من المختارين في ندوتكم. في حوزتكم السرُّ الحق ومعرفة المفتاح المؤدي إلى فرح الفردوس، مثلكم كمثل الآباء والأنبياء في الكتب المقدسة. [...]
إنكم لتُسِرُّون إلى اثنين من المختارين بوجود جبل قائم في وسط الأرض في حماية غير الشيطان وتحُول وحوشٌ شرسة وقوية دون الوصول إليه في يسر. وإنكم لتأمرونهما، بعد أن يستعدا لمثل هذا الأمر بالصلوات المتفانية، بالمضي إلى ذلك الجبل، وتعدونهما بمرشد، يتقدم نحوهما وينضم إليهما دون أن يعرفاه. [...]
هي عاصفة وهزَّة أرضية ثم، مع انبلاج الصبح، تحل سكينة شاملة. إذ ذاك ستبصران نجمة الصبح تشرق والفجر يعلن عن ذاته. وفي هذه اللحظة سيظهر لبصيرتكما الكنز.
ونكتفي من هذه الأجواء بهذا القدر، لنسرد بعضًا...
8. ممَّا حدث بعدئذٍ...
وكان فعلاً ملفتًا للنظر، حيث إنْ وضعنا جانبًا بعض "الدجالين" الذين حاولوا حينذاك تسخير ما طُرِحَ للتلاعب بعقول بعض السذَّج، كان أن تبنَّى العديد من نخبة النخبة في تلك الأيام، ومازالوا إلى الآن، ما طرحتْه ودعت إليه أفكار الوردة + الصليب، فجعلوا من أنفسهم، مباشرة أو في صورة غير مباشرة، من دعاتها.
والجانب المفيد الذي يهم مؤرخ الحركات السرَّانية هو ما تفتَّق عنه الجهرُ بوجود الأخوية من أدبيات اكتست بثوب أسلوب التعبير الروحي السائد في تلك الفترة، وخصوصًا المصطلحات القبالية والخيميائية. فمجاز الرؤيا الخاصة بـ"الحجر الذهبي" في العرس الخيميائي أفسح المجال لأدبيات عديدة مثلاً حول "حجر الفلاسفة" – وإن كان بعضهم قد أخذ بالمعنى الحرفي دون التأويل الروحي الذي نادى به الصوفي رويسبروك في مؤلَّفه العشق أو الحجر الوقاد. ويبدو أن الأب الروحي لأندريا كان ضليعًا بالمنقول الخيميائي، وهو مؤلِّف مصنف كتب المسيحية الحق الأربعة Vier Bucher von wahren Christenthum (1610). وقد وقف مفكرون عديدون موقف الدفاع عن الوردة + الصليب، معلنين في دفاعهم عن أفكار فلسفية وثيوصوفية على غاية من الأهمية. نذكر منهم ميشائيل ماير Michael Maier، طبيب رودولف الثاني ثم طبيب أمير ناساو Nassau، الذي طرح فكرًا رمزيًّا زعم أنه من مصدر روزكروشي في كتابه Cantilenæ intellectualis de phœnice redivivo (1622) واهتم بالجانب النظري العقائدي في كتابه ركن الأركان Arcana Arcanissima (1614) الذي عبَّر عنه بمفاهيم ثيوصوفية ومنطق باطني معقَّد خلا منه "البيانان" اللذان ركزا على الجانب السرَّاني فقط[28]. وفي فرنسا، أهدى الخيميائي الفرنسي ميشيل پوتييه Michel Potier كتابه مقالة جديدة في حجر الفلاسفة Nouveau traité de la Pierre Philosophale (1617) إلى جماعة الوردة + الصليب.
أما في إنكلترا، فقد اتسم القرن السابع عشر بتسنم الفكر الخيميائي ذروته وبأثر لا يُستهان به للأفكار الوردصليبية. ففي رسالته Tractatus apologeticus (1617) التي سبق لنا أن اقتبسنا عنها، دبَّج روبرت فلود دفاعًا محكمًا عن "جمعية وردة الصليب" ضد خصومها؛ لا بل إنه، في اثنين من مؤلَّفاته الأخرى تحديدًا، وهما: Apologia Compendiera (1616) وSummum Bonum (1629)، طرح نفسه كناطق باسم الوردة + الصليب، ما قد يبدو متناقضًا مع دعوة تلك الأخوية إلى التخفِّي. وقد تحدث فلود في مؤلَّفاته عن الخيمياء والسحر والقبالة، ومثله كمثل ماير، أضفى على أفكار "البيانين" روحًا قبالية اتسمت بها خبرتُه الشخصية، كما تكلم على الحكمة الإلهية Theosophia التي عن طريقها يتم التمييز بين الخير والشر.
بعده مباشرة، نسجِّل اسم التشيكي كومينيوس Comenius الذي، على خطى روبرت فلود، طوَّر أفكار "بيانَي" الوردة + الصليب وأسَّس من أجل دراستهما في أمستردام "مجمع الحكمة الكلِّية" Collegium Pansophicum الذي يدَّعي الانتساب إلى هذا المنحى.
وازدهرت الحلقات ذات التوجه الوردصليبي، وانتسب معظم أعضائها في إنكلترا وإيرلندا إلى المحافل الماسونية الناشئة التي تبنَّت المنحى مباشرةً وخصَّصت له إحدى أهم درجاتها العليا، الدرجة 18[29]. وهذا ليس بمستغرب، لأن مجرد تأمل بسيط في رمزية هندسة ضريح كريستيان روزنكرويتس وأبعاده الذي صُمِّم كي يكون "ملخصًا للكون"، يعيدنا إلى رمزية أسطورة هيكل سليمان ومهندسه حيرام أبيف. وأيضًا...
نسجل اهتمام العالم والفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت René Descartes حينذاك بجمعية الوردة + الصليب، إلى حدِّ أنه نُسِبَ إليها. لكن ديكارت، الذي كان صديقًا حميمًا لكومينيوس، نفى هذه المزاعم، وإنْ لم ينفِ اهتمامَه بالوردة + الصليب[30]. وأيضًا...
لم ينقطع الاهتمام بهذا المنحى، لكنه تطور بالأخص، إن لم نقل حصرًا، عن طريق التوجهات الروحانية للماسونية التأملية Speculative Masonry. ففي القرن الثامن عشر، نسجل خاصة تشكل العديد من المحافل الماسونية ذات التوجهات الوردصليبية. وأهمها في ألمانيا كان محفل "الوردة + الصليب الذهبي" Rose-Croix d’Or الذي تأسَّس في العام 1710 ومحفل "الوردة + الصليب الذهبي – النهج القديم" Gold-und-Rosen-Kreutzer ëltern Systeme الذي تأسَّس في العام 1750 وأظهر انتشارًا عدديًّا ملحوظًا، شاملاً تسع رتب متدرجة، ومارس شعائر ملفتة لانتباه مؤرخ الرمزية. وقد انضم إليه ماسون متعطشون إلى السر والباطنية، فغادروا محافلهم من جماعة "فرسان الهيكل من النهج الصارم" Templars of the Strict Observance. نذكر من أعضائه فريدرش شرودر F.J.W. Shröder، الطبيب الخيميائي، وفريدرش كريستوف أوتنغر F.C. Œtinger، أعظم الثيوصوفيين الألمان في القرن الثامن عشر، كما كان من أبرز أعضائه الفيلسوف والرياضي لايبنتس. كما نسجل أيضًا التأثير الكبير للفكر الوردصليبي على غوته الذي تحدث عنه صراحة في قصيدته الأسرار التي كتبها ما بين عامَي 1784 و1786 ولم يُنهِها[31].
وفي فرنسا، تألَّف "تنظيم فرسان مصطفي كوهين" Ordre des Chevaliers élus-Cohen، التي كان يترأسها "الفيلسوف المجهول" مارتينيز دي پاسكوالي Martinez de Pasqualy والتي ضمت بين أعضائها لويس كلود دُه سان مارتان Louis-Claude de Saint-Martin، الذي أعاد اكتشاف الثيوصوفيين الكبار، من أمثال عمانوئيل شڤيدنبرغ ويعقوب بُوهْمِه.
وفي القرن التاسع عشر، نلاحظ اهتمامًا متزايدًا للجمعيات الوردصليبية بالسحر وبعلوم الباطن، حيث تأسست جمعيات عديدة لم تعد تتكلف عناء العودة إلى التعاليم الأصلية في الكتب الثلاثة، فتشكَّلت جمعيات ومحافل ماسونية جديدة، نسجل منها:
– "الجمعية الوردصليبية في أنغليا" La Societas Rosicruciana in Anglia، التي أسسها روبرت وِنْتوُرث Robert Wentworth في العام 1867، مؤلَّفةً من 144 عضوًا فقط. وكان من بين أعضائها إدوارد بلور ليتون E. Bulwer Lytton، مؤلِّف آخر أيام پومپي، وإليفاس ليڤي Eliphas Levi. و...
– "التنظيم الهرمسي للفجر الذهبي" Hermetic Order of the Golden Dawn، الذي أسَّسه روبرت ونتورث نفسه في العام 1887، منشقًّا عن الجمعية السابقة. وقد ضم بين أعضائه القبالي الشهير صاموئيل ليدل ماكغرغور ماذرز Samuel Liddell MacGregor Mathers (زوج شقيقة هنري برغسون، الفيلسوف الفرنسي الشهير)، ووضع نصب عينه إحياء طقوس السحر القديمة. وقد ترأسه فيما بعد الشاعر الإيرلندي صموئيل بطلر ييتس S.B. Yeats، وكان من أعضائه ربما جبران خليل جبران. و...
– "التنظيم القبالي للوردة + الصليب" L’Ordre Kabbalistique de la Rose-Croix، الذي أسَّسه في العام 1888 – لكنْ في فرنسا – كل من ستانسلاس دي غايتا Stanislas de Guaïta وجوزيفان پالادان Josephin Péladan، والذي ضم بين أعضائه الموسيقار الشهير كلود دوبوسِّي. وقد كان من أعضائه أيضًا پاپوس Papus الذي انفصل عنه بدوره ليؤسِّس جمعية منشقة هي "أخوية وردة الصليب والهيكل والغرآل".
– وفي القرن العشرين، نجد أن أهم تنظيم يدِّعي الانتساب إلى الوردة + الصليب هو المحفل الماسوني المسمَّى بـ"التنظيم القديم والسرَّاني للوردة + الصليب" Anticus Mysticusque Ordo Rosæ Crucis (AMORC) الذي أسَّسه الدكتور هارڤي اسپنسر لويس H. Spencer Lewis في العام 1909 في الولايات المتحدة الأمريكية، ويضم حوالى 250.000 عضو موزَّعين في مختلف أنحاء العالم، وكما يقال، يدرس أعضاؤه الأدبيات الوردصليبية. كما يرعى هذا التنظيم جامعة مخصصة لأعضائه تدرس علوم الفلك والبيئة والطب والعلوم المصرية القديمة والموسيقى وعلم النفس والعلوم الباطنية. وأيضًا...
– هناك "الزمالة الوردصليبية" Rosicrucian Fellowship، التي أسَّسها الدنمركي ماكس هايندل Max Heindel في العام 1911، مستوحيًا أعمال رودولف شتاينر والسيدة بلاڤاتسكي، والتي اهتمت بعلم النجوم وعلم الشفاء. و...
– "مدرسة الوردة + الصليب الذهبية" L’École de la Rose-Croix d’Or (Lectorium Rosicrucianum)، التي انشق مؤسسها الهولندي ي. فان ريكنبورغ J. van Rijckenborgh عن "زمالة" ماكس هايندل. و...
– "أخوية كروتونا للتنظيم الوردصليبي" La Confrérie de Crotone de l’Ordre rosicrucien (CCOR)، التي أسَّسها جورج ألكسندر سوليڤان G.A. Sullivan في العام 1924.
– إلخ، إلخ.
9. ونصل إلى نهاية الجزء الأول من هذه المحاولة...
الذي، حين نعيد قراءته، يذكِّرنا بمشهد قبرين متقابلين في مدفن الأب لاشيز في باريس، قبرين يقال إنهما للشخص نفسه، الذي يقال أيضًا إنه كان من جماعة الوردة + الصليب – وكأن صاحبهما، من وراء قبره، يستفزنا، داعيًا إيانا إلى التكهن في أيِّ قبر مدفون هو...
لأن ما يمكن لنا استخلاصه من هذا البحث–المحاولة من نتيجة هو أن الوردة + الصليب، كتنظيم سرَّاني قيل إنه وُجد ذات يوم ومازال إلى الآن، مجرد لا شيء في نهاية المطاف، لأنها، أساسًا ربما، مجرد مقام روحي يبلغه جميعُ أولئك الذين تحققوا بأعلى درجات الرقي الروحاني. أما أولئك الذين يدَّعون الانتساب إلى الوردة + الصليب، سواء كأفراد أو كتنظيمات قائمة، فهم، كما ذكرنا، مجرد "روزكروشيين" Rosicruciens، وهم، في أحسن الأحوال، المريدون الباحثون عن طريقهم من خلال ما يقدمه منقول الوردة + الصليب من وحي وإلهام.
والغوص في ماهية هذا المنقول الذي يصفه بعضهم، وعلى رأسهم رونيه غينون، بـ"الميتافيزيائي"[32]، بينما يصفه بعضهم الآخر بـ"السرَّاني"، هو موضوع شائق وطويل قد نحدثكم عنه لاحقًا – إن شاءت الآلهة!
المصدر موقع معابر
تسجيل الدخول
أو
تسجيل
لمشاهدة الروابط
*** *** ***
horizontal rule
[1] شوهدت قبل القرن السابع عشر صور ورود إلى جانب صلبان، لكنها كانت بنظر عامة الناس مجرد رموز في جملة رموز أخرى كثيرة، ولم يبدأ الحديث جهرًا عن الوردة + الصليب كجماعة سرانيَّة قبل العام 1614.
[2] مع أن عددًا من المؤرخين أكد صلة ي.ڤ. أندريا (1586-1654) الثابتة بصدور المؤلَّفات الثلاثة، فإن هذا القول مشكوك فيه، لأنه فيما ماعدا العرس الخيميائي الذي يمكن لنا نسبته فعلاً إلى القس أندريا، فإن نسبة "البيانين" الأولين إليه غير مؤكدة على الإطلاق، بل ومستبعدة. وقد اتسمت تلك الفترة بجدل كثير حول القضية برمَّتها.
[3] Gabriel Naudé, Introduction à la France sur la vérité de l’histoire des frères de la Rose Croix, Paris, 1623, p. 27.
[4] Ibid.
[5] Effroyable paction entre le diable et les prétendus invisibles, Paris, 1623, p. 16.
[6] Ibid.
[7] Ibid.
[8] P. Jacques Gaultier, Table chronologique de l’estat du christianisme depuis la naissance de Jésus-Christ, Lyon 1633, pp. 889 et sq.
[9] يقول بعض المؤرخين بأن ملهم أندريا، إذا صحت نسبةُ الكتب إليه، قد يكون توماسو كامپانيلا، مؤلِّف كتاب مدينة الشمس، وهو يوطوپيا مستلهَمة من يوطوپيا توماس مور. ولعل الصوفيان الكبيران يواكيم دي فيوري وتوماس آكمپس كانا نموذجين لكريستيان روزنكرويتس. ونلحظ كذلك في "البيانين" سمة پاراكلسُس، الطبيب الخيميائي الشهير. وقد كان كل من الصوفيين من المدرسة الرينانية إيكهَرت ورويسبروك قد أطلقا على جميع الناهضين للسير في "طريق الكمال" لقب "الأبناء الأخفياء" أو "المستترون بالله"؛ ونجد في "البيانين" هذين اللقبين.
[10] جدير بالذكر أن السيدة هـ.پ. بلاڤاتسكي H.B. Blavatsky تؤكد، في مقال هام، الأصلَ التاريخي لأسطورة C.R.، إذ تعيد التأسيس الفعلي للأخوية إلى أواسط القرن الثالث عشر وتنسبها إلى فارس ألماني تعاطى ممارسة السحر الأسود، ثم تاب على أثر رؤيا، وأقسم يمينًا لا حنث فيه بالإقلاع عن ممارساته الشريرة، ومضى إلى فلسطين حاجًّا سيرًا على قدميه، وهناك تراءى له المسيح بالروح. وهي تضيف أن الأخوية قد استترت، وأن مركزها الفعلي آسيا الصغرى، لكنها لم تصرِّح باسمها الحقيقي.
[11] بمعنى "البشرى السارة" Euangelion باليونانية.
[12] الإخوة G.V. وI.A. وI.O..
[13] مهما يكن من أمر، كما في جميع الأساطير النقلية التي تتناول سيرة أشخاص روحانيين كبار (أوزيريس، تموز، المسيح، البوذا، حيرام، إلخ)، تصبح الشخصية التاريخية التي يُنسَب إليها المأثور، سواء وُجِدَتْ فعلاً أم لم توجد، ثانويةً بالقياس إلى الصرح الرمزي الروحي المشيد حولها. والمعاصرون، كما جرت العادة، يردون أصول "الجمعية" إلى مصر القديمة، وحتى إلى قارة أطلنطس الأسطورية الغارقة! وعلى الرغم من تعذر التيقن من ذلك تاريخيًّا، فمن المؤكد أن التنظيمات السرَّانية وُجِدَتْ منذ أقدم الأزمنة واستمرت حتى عهد قريب من نشوء الوردة + الصليب. لكن الأسطورة الرمزية تتداخل فيها موضوعات عديدة: رحلة الحج أو السفر الروحي بحثًا عن "النور الإسرائي" (نلاحظ الصلة مع الصوفية المسلمين)، مسألة الشيخ والمريد، وأخيرًا اكتشاف المدفن الخفي بعد انقضاء 120 عامًا على وفاة المؤسس (1604). من ناحية أخرى، ربما كانت سيرة مؤسِّس كل أخوية سرَّانية ترمز إلى حياة الأخوية نفسها التي تمر تباعًا، بحسب المنقول، بأدوار من السرية القصوى وأخرى من الجهر تظهر إبانها وتتجلَّى. فالعام 1604 قد يكون إيذانًا بابتداء طور جديد من الصحوة الخارجية للأخوية.
[14] Hoc universi compedium nisus mihi sepulcrum fui.
[15] «… après que le monde se sera éveillé de son ivresse bue à la coupe empoisonnée, l’homme ira à la rencontre du Soleil levant, tôt le matin, le cœur ouvert, la tête découverte et les pieds nus, jubilant et rempli d’allégresse. »
[16] « Maintenant, il est nécessaire que cède toute erreur, ténèbre et servitude qui se sont progressivement emparées des sciences, des œuvres et du gouvernement des humains… de sorte que la majorité des hommes se sont obscurcis… Il n’est cependant d’autre philosophie pour nous que Celle qui est la Couronne de toutes les facultés, sciences et arts. En ce qui concerne notre siècle elle comprend surtout la Théologie, la Médecine, et avant tout la Science du Droit ; c’est une philosophie qui sonde le ciel et la terre à l’aide d’un excellent art d’analyse ou qui, en un mot, exprime essentiellement que l’homme est un microcosme. »
[17] بمعنى أنثروپوس Anthropos، "النموذج البدئي" للإنسان.
[18] أشهر التعريفات بالوردة + الصليب تعريف الطبيب الخيميائي روبرت فلود Robert Fludd (ستكون لنا عودة إليه): "صليب جلجثة وقد تخضَّب بدم المسيح فنبتتْ منه وردة." جدير بالذكر أن رمزَي الصليب والوردة سابقان للمسيحية. فمن وجهة نظر نقلية عرفانية، يمثل الصليب اتجاهات الفضاء الأربعة، شجرة الكون، طاقة الأفعى، الإنسان، إلخ، فيما تشير الوردة إلى التجلِّي في أطواره، أدوار الحياة والتناوب الحيوي بين الولادة والموت والتجدد.
[19] كلمة ros اللاتينية ("وردة") تعني "ندى" أيضًا، وكلمة crux لا تعني الصليب وحسب، بل "البوتقة" أيضًا: مما يبرهن، مرة أخرى، أن للخيمياء دورًا هامًّا في السرَّانية الوردصليبية.
[20] وهذا الادعاء ملفت للنظر: فكريستيان روزنكرويتس، كما جاء في الـFama، كان في السادسة عشرة من عمره حين بدأ رحلته السرَّانية الأولى.
[21] راجع، مثلاً: رسالة بولس الرسول إلى الفيلپيين 4: 3؛ رؤيا يوحنا 20: 12 و15؛ 21: 27.
[22] الجزء الثاني من هذه المحاولة مخصص بكامله لدراسة العرس ورموزه الخيميائية.
[23] المسيح، باطنيًّا، هو "الكلمة" Logos الذي كُوِّن به العالمُ عبر فعل "قربان كوني": الإله "يصلب" نفسه، الروح يميت نفسه على صليب المادة، ليولد الكونُ من البيضة الأم، أو الهيولى الأولى التي لقَّحها الروح، بوصفها رمزًا للتجلِّي الكوني. يسوع في السرَّانية الروزكروشية هو "الإنسان الكامل" الذي حقق مبدأ التضحية، أي أعاد تمثيل القربان الكوني على الأرض؛ هو النار الإلهية التي أحلَّت النظامَ في "العماء" Chaos في أول هذا الدور الحالي من التجلِّي الكوني والتي سوف تحرق كلَّ شيء وتلتهمه في آخره لتعيده إلى الأصل الذي انبثق منه (من هنا رمزية المجيء الثاني للمسيح). فعلى صليب المسيح نقرأ الحروف الأربعة الأولى من لقب "يسوع المسيح ملك اليهود" INRI، التي يجب أن تُقرأ باطنيًّا هكذا: Igne Natura Renovabitur Integra، وهي عبارة لاتينية تعني: "الطبيعة بأسرها ستتجدد بالنار".
[24] راجع في العهد الجديد: أعمال الرسل4: 12؛ رسالة بولس الرسول إلى القولوسيين 1: 15-20؛ رسالته إلى العبرانيين 1: 3-4.
[25] نلاحظ الشبه مع شروط الانتساب إلى الفِرَق الماسونية فيما بعد: "الأحرار ذوو الخلق الحسن".
[26] عملاً بعبارة هرمس "المثلث بالحكم"، سيد الخيميائيين أجمعين: "ما هو تحت شبيه ما هو فوق، وما هو فوق شبيه ما هو تحت."
[27] نجد في التصوف الإسلامي هذا التمييز عينه بين "الصوفي" أو "العارف بالله"، المتحقق بكمال إنسانيته، وبين "المتصوف"، السائر على درب هذا التحقق.
[28] نذكر أيضًا من أسماء خيميائيي القرنين الخامس عشر والسادس عشر: جان تريثيم Jean Trithème وهنريكوس كورنيليوس أغريپا Henricus Cornelius Agrippa وثيوفراستوس بومباستوس فون هوهنهايم Theophrastus Bombastus von Hohenheim، الملَّقب بپاراكلسُس.
[29] يُرمَز إلى الدرجة 18 في الماسونية برمز روزكروشي هام هو البجعة (من رموز المسيح) التي تفتح صدرها لتغذِّي فراخها من دم قلبها (انظر الشكل)، مما يذكِّر بأن التضحية الطوعية والكاملة تشكِّل ركنًا هامًّا من أركان الوردة + الصليب.
[30] من المنظمات الأخرى التي شاعت آنذاك "أخوية المستنيرين الآسيويين" Frères illuminés de l’Asie التي نستنتج من كلام السيدة بلاڤاتسكي عليها أن أحد أفرادها وآخرهم كان الكونت كاليوسترو Cagliostro، الأمر الذي يفسِّر الأصول المشرقية لأفكار هذا الأخير.
[31] يجدر بنا أيضًا ذكر أسماء ثلاث شخصيات تتصل أسماؤها بهذا المحفل. فمن بينهم يستحق يوزف شليسنغر تخصيص بحث له بمفرده، ليس هاهنا مجاله. أما الآخران، ڤولنر وبيشوفسڤردر، فهما أكثر شهرة. فبعد انضمامه إلى "فرسان الهيكل"، انضم J.R. Bischoffswerder إلى "وردة الصليب الذهبية – النهج القديم"، ثم أدخل إليه كاهنًا مغمورًا هو J.C. Wöllner، ومعًا ضمَّا إلى جمعيتهما فردريش غليوم، ولي عهد پروسيا. وفي 8 آب 1781، بفضل عمليات سحرية خاصة، قام بيشوفسڤردر في قصر شارلوتنبورغ، وسط رعود وبروق، باستحضار "أرواح" ماركوس أوريليوس ولايبنتس وسواهما! وهذا حدث هام سياسيًّا، لأنه حين اعتلى فردريش غليوم الثاني عرش پروسيا في العام 1786، عين معلمَيه ڤولنر وزيرًا للدولة والأوقاف وبيشوفسڤردر وزيرًا للحربية. وفي تلك الفترة، بالتزامن، احتجب المحفل، ربما لأن معلمَيه لم يعودا في حاجة إليه لبلوغ مآربهما!
[32] تأسيس تنظيم باطني حقيقي لا يتم بدافع نزوة من شخص أو أشخاص، كما بتنا نشهد اليوم. فهناك فحص حاسم من شأنه يجعلنا نعرف ذلك: العناصر التي يقوم عليها التنظيم النقلي الباطني أو العرفاني، بشعائره وأسراره، ليست من ابتكار شخص، بل توجد قبله ويتعذر تحديد مصدرها وتاريخ ظهورها. من هنا لا نجانب الصواب حين نقول بقول رونيه غينون إن الرمزية النقلية من مصدر ميتافيزيائي. "المسارَرة" Initiation أو تلقين الأسرار يتم من المرشد إلى المريد عبر سلسلة غير منقطعة تغيب أصولها في غياهب التاريخ – ولهذا الكلام تتمة في الجزء الثاني من المحاولة.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: