-12
كُلْ ثمرتك أنت
شكى أحد التلاميذ ذات مرة:
"إنك تروي لنا قصصاً، لكنك لا تكشف لنا أبداً عن معناها."
فقال المعلم:
"ما قولك لو قدم لك أحدهم ثمرة ومضغها قبل أن يعطيكها؟"
ليس بوسع أحد أن يجد عنك
معناك.
ولا حتى المعلم.
.
.
.
.
.
.
-13
صار نصر الدين كبير وزراء الملك. وذات يوم، فيما كان يتجول في أنحاء القصر، رأى صقراً ملكياً.
لم يكن نصر الدين قد رأى قط حمامة من هذا النوع قبلئذٍ. وهكذا تناول مقصاً وقلَّم مخالب الصقر وجناحيه ومنقاره.
"الآن تبدو طائراً مهذباً،" قال. "لابد أن سيِّدك كان يهملك."
"أنت مختلف، فالغلط
فيك!"
مساكين رجال الدين، لا يعرفون غير العالَم الذي فيه يقبعون، ولا يتعلمون شيئاً ممّن يخاطبون.
.
.
.
.
-14
الإبرة
أنعم الله على أحد الأولياء بموهبة النطق بلغة النمل. فدنا من نملة يبدو عليها أنها من أرباب العلم وسألها: "ماذا يشبه العليّ القدير؟ أيشبه من وجه ما معشر النمل؟
أجابت النملة العالمة:
"العليّ القدير؟ قطعاً لا. عندنا، معشر النمل، على ما ترى، إبرة واحدة. أما هو تعالى فعنده اثنتان!"
استطراد من وحي القصة:
عندما سئلت النملة العالمة عن الجنة ماذا تشبه، أجابت بوقار: "هناك سوف نكون مثله تماماً، لكل منا إبرتان اثنتان، إنما أصغر فحسب."
ومايزال جدال مرير محتدماً بين مذاهب الفقه حول تحديد مكان الإبرة الثانية تحديداً دقيقاً على الجسم السماوي للنملة.
.
.
.
.
..
15-
البحث عن الحمار
تولى الناس الذعر إذ رأوا الملاّ نصر الدين معتلياً حماره يكرّ عبر أزقة القرية.
"إلى أين القصد يا ملاّ؟" سألوه.
"أفتش عن حماري،" قال الملاّ وهو يمرق مسرعاً بجوارهم.
شوهد معلم الزِنْ رنْـزَيْ يفتش عن جسمه. الأمر الذي صار موضوع تندُّر مريديه غير المستنيرين.
حتى إن المرء يصادف أناساً يفتشون بجدية عن الله!
.
.
.
.
.
.-16
الروحانية الحقة
سُئِل المعلِّم: "ما الروحانية؟"
قال: "هي ما يفلح في حمل المرء على التحوُّل الداخلي."
"فإذا طبَّقتُ المناهج المنقولة المأثورة عن المعلمين، أليس هذا التطبيق روحانية؟"
"إنه ليس كذلك إذا لم يؤدِّ غرضه من أجلك. فليس الدثار دثاراً إذا لم يدفئك."
"فالروحانية تتغير إذن؟"
"تتغير الحاجات بتغير الناس. فما كان روحانية يوماً، لم يعد كذلك. إن ما ينضوي تحت اسم روحانية عموماً هو سجلّ المناهج السالفة ليس إلا.
.
.
.
.
.
17-
السمكة الصغيرة
"المعذرة،" قالت سمكة البحر. "أنت أسنّ مني وأخبر. فهلا أخبرتني أين أجد ذلك الشيء الذي يسمونه البحر؟"
ردت السمكة الأسنّ: "البحر هو ما أنت فيه الآن."
"إيه، هذا؟!" إنْ هذا إلا ماء. ما أريد هو البحر،" قالت السمكة الخائبة وهي تسبح مبتعدة لتفتش في مكان آخر.
قَدِم على المعلِّمَ بزيّ سنّياسي. وكلَّمه بلغة السنّياسي
*: "سنوات وأنا أطلب الله. طلبته في كل مكان قيل إنه فيه: على قمم الجبال، في الصحراء الشاسعة، في صمت الصومعة، وفي أكواخ الفقراء."
"وهل وجدته؟" سأل المعلِّم.
"لا،لم أجده. وأنت، هل وجدته؟"
ماذا كان بوسع المعلِّم أن يقول. كانت شمس المساء ترسل سهاماً من النور الذهبي داخل الغرفة. وكانت مئات من عصافير الدوري تزقزق فوق شجرة بَنْيان قريبة. كان بمقدور المرء أن يسمع جلبة السير على الطريق آتية من بعيد. وكانت بعوضة تئزّ منذرة ببدء غارتها… ومع ذلك استطاع هذا الرجل أن يجلس هناك ويقول إنه لم يجد الله.
وما هي إلا برهة حتى غادر خائباً ليفتش في مكان آخر.
* كلمة سنسكريتية تعني من زهد في الدنيا وترهّب طالباً التحقق الروحي. (المترجم)
.
.
.
.
.18
هل سمعت ذلك الطائر يغني؟
صاغت الهند الهندوسية صورة بديعة لوصف علاقة الله بالخلق. إن الله "يرقص" الخلق. الله هو الراقص والخلق رقصته. الرقصة مختلفة عن الراقص، غير أن لاوجود لها بدونه. ليس بمقدورك أن تحملها إلى البيت في علبة إذا راقت لك. فما إن يكف الراقص عن رقصه حتى تنعدم الرقصة.
في طلبنا لله نفرط في التفكير، ونفرط في التفكُّر، ونفرط في الكلام. وحتى عندما ننظر إلى هذه الرقصة التي ندعوها الخلق، نفكر، نتكلم (مع أنفسنا ومع الآخرين)، نتفكر، نحلل، نتفلسف طوال الوقت. كلمات، كلمات… ضجيج، ضجيج …
البث صامتاً وشاهد الرقصة. انظر فحسب: نجمة، زهرة، ورقة شجر ذابلة، طائر، حجر … أي جزء من الرقصة يفي بالغرض. أنظرْ. أصغِ. شُمَّ. المِسْ. ذُقْ. وبعونه لن يطول بك الأمر حتى تراه … الراقص نفسه!
كان التلميذ دائم التشكّي لمعلِّمه: "إنك تحجب عني سرّ الزِنْ الأعظم." وما كان ليقبل إنكار المعلم.
ذات يوم، بينما كانا سائرين على التلال، سمعا طائراً يغني.
"هل سمعت ذلك الطائر يغني؟" قال المعلِّم.
"نعم،" قال التلميذ.
"حسن. فأنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئاً."
"نعم."
لو أنك سمعت حقاً طائراً يغني، لو أنك رأيت حقاً شجرة … لعرفت. فيما يتعدى الكلمات والتصورات.
ما الذي قلت؟ سبق لك أن سمعت عشرات الطيور ورأيت مئات الأشجار. آه، هل كان ما رأيت هو الشجرة أم الاسم؟ إذا نظرت إلى شجرة فرأيت شجرة، فأنت لم تر الشجرة حقاً. أما إذا نظرت إلى شجرة ورأيت معجزة، إذ ذاك، أخيراً، فقد رأيت! أفما امتلأ قلبك قط بذهول لا يوصف إذ سمعت طائراً يغني؟
.
.
.
.
.
.
19-
أقطع الحطب!
عندما بلغ معلم الزِنْ الاستنارة كتب السطور التالية احتفاء بذلك:
"يا للروعة المذهلة:
أقطع الحطب!
أسحب الماء من البئر!"
بعد الاستنارة لاشيء يتغير حقاً. ماتزال الشجرة شجرة، والناس تماماً هم ما كانوا من قبل، وكذلك أنت. قد تظل على ما كنت عليه من تقلب المزاج أو هدوء الطبع، من الحكمة أو الحمق. الفرق الواحد هو أنك ترى الأشياء بعين مختلفة. أنت أكثر زهداً بكل شيء الآن. أما قلبك فملؤه العجب.
ذلك جوهر المشاهدة: حس العجب.
المشاهدة تختلف عن الجذب في أن الجذب يؤدي إلى الانسحاب. أما المشاهِد المستنير فيواصل قطع الحطب وسحب الماء من البئر. المشاهدة مختلفة عن الإدراك الجمالي في أن إدراك الجمال (لوحة أو غروب) يولِّد سروراً جمالياً، بينما تولِّد المشاهدة عجباً، أكان الشيء المشاهَد غروباً أم حجراً.
بذلك يمتاز الأطفال. إنهم أغلب الوقت في حالة عجب. لذا فهم يسران ما ينسلّون في الملكوت.
20-
أعواد الخيزران
أقعى براوني، كلبنا، ينظر إلى أعلى الشجرة، منتصب الأذنين، يبصبص بذيله المشدود. كان يراقب قرداً. ما من خاطر كان يشتِّت تركيزه التام، ما من اهتمام بالغد. لقد كان براوني أقرب ما رأيت طوال حياتي إلى التأمل الخالص.
لعلك اختبرت شيئاً من هذا بنفسك عندما كنت منهمكاً تماماً في مراقبة قطة تلعب. هي ذي صيغة للتأمل، لا تقل جودة عن أية صيغة أخرى أعرفها: كن بجملتك في الحاضر.
تخلَّ عن كل فكرة تتعلق بالمستقبل، وعن كل فكرة تخص الماضي، أهمِلْ كل صورة وكل تجريد، وتعال إلى الحاضر. لحظتئذٍ ينبثق الاستغراق!
بعد سنوات من التدريب، توسل التلميذ إلى معلمه أن يهبه الاستنارة.
اصطحبه المعلم إلى أيكة خيزران وقال: "أوترى هذه الخيزرانة، كم هي طويلة؟ أوترى تلك الأخرى، كم هي قصيرة؟"
واستنار التلميذ من فوره.
يحكى أن البوذا مارس كل أنواع الزهد المعروفة في الهند في زمانه، مجاهداً لبلوغ الاستنارة. ولكن بدون جدوى. وذات يوم، فيما هو جالس تحت شجرة بودهي حصلت الاستنارة. ولقد نقل لتلاميذه سرّها بكلمات لابد أنها تبدو غريبة لغير المسارَرين: "عندما تشهقون شهيقاً عميقاً، يا رهبان، عُوا أنكم تشهقون بعمق. وعندما تشهقون شهيقاً ضحلاً، يا رهبان، عُوا أنكم تشهقون بضحالة، وعندما تشهقون شهيقاً متوسط الحجم، يا رهبان، عُوا أنكم تشهقون شهيقاً متوسط الحجم." الوعي. الانتباه. الاستغراق.
هذا النوع من الاستغراق يلاحظه المرء عند الأطفال الصغار.
ما أقربهم من الملكوت!
.
.
.
.-21
أجراس المعبد
شُيِّد المعبد على جزيرة ونُصِب فيه ألف جرس. أجراس كبيرة وأخرى صغيرة، صاغها أمهر صناع العالم. فعندما كانت تهب ريح أو تثور عاصفة كانت كل الأجراس تجلجل في سيمفونية ينخطف لها قلب المستمع طرباً.
لكن الجزيرة ما لبثت على كرّ القرون أن غرقت في البحر، والمعبد وأجراسه معها. بيد أن أسطورة قديمة تروي أن الأجراس ظلت تجلجل بغير انقطاع بحيث يمكن لكل من يود الإصغاء أن يسمعها. استلهم شاب هذه الأسطورة وارتحل آلاف الفراسخ، عاقداً العزم على سماع هذه الأجراس. جلس أياماً على الشاطئ، مواجهاً الجزيرة المتوارية، مصيخاً السمع بكل قوته. لكن كل ما استطاع سماعه كان صوت البحر. وبذل قصارى جهده لكي يبعده، إنما بلا جدوى، إذ بدا صوت البحر غامراً العالم.
وظلّ على دأبه أسابيع. وفي كل مرة يدبّ التخاذل في قلبه كان يصغي لشيوخ القرية يتكلمون متلذذين على الأسطورة الغامضة.
وإذ ذاك كان قلبه يتقد ... ليعود مثبط الهمة من جديد عندما لا تورثه أسابيع من مزيد الجهد غير الخيبة.
قرر أخيراً التخلي عن المحاولة. فلعله غير مقدَّر له أن يسمع الأجراس. ولعل الأسطورة لم تكن صحيحة. كان ذلك يومه الأخير، فذهب إلى الشاطئ ليودِّع البحر والسماء والريح وأشجار جوز الهند. استلقى على الرمل، وللمرة الأولى أصغى إلى صوت البحر. وسرعان ما بلغ من الاستغراق في الصوت حداً كاد معه يغيب عن نفسه، من فرط عمق الصمت الذي ولّده الصوت.
ومن عمق ذلك الصمت، سمعه! رنين جرس ضئيل تبعه آخر، ثم آخر، وآخر… وسرعان ما كان كل من الأجراس الألف يجلجل بتناغم، وانخطف قلبه في غبطة الوَجْد.
أوتتمنى سماع صوت أجراس المعبد؟ ألا اصغِ إلى صوت البحر.
أوتتمنى أن تلمح وجه الله؟ ألا أمعن النظر في الخليقة.
.
.
.
.
.
-
22
الوثن البشري
قصة هندوسية قديمة:
قذف الموج تاجراً نجا من الغرق على شاطئ سيلان حيث كان فبهيشانا ملكاً على الغيلان. فعندما رآه فبهيشانا استطار قلبه فرحاً وقال: "آه! إنه ليشبه إلهي راما تمام الشبه. صورتهما البشرية هي هي." ثم ما عتم أن أمر بأن تُخلع على التاجر ثياب وحليّ نفيسة واتخذه إلهاً.
يقول الروحاني الهندوسي الكبير راماكرشنا: "لدى سماعي هذه القصة للمرة الأولى شعرت بمسرة لا توصف. إذا كانت عبادة الله ممكنة في صور من الطين، أفلا يُعبد بالحري في الناس؟"
.
.
.
.
.
23-
التفتيش في الموضع الخاطئ
وجد أحد الجيران نصر الدين جاثياً على يديه وركبتيه.
"عم تفتش يا ملاّ؟"
"عن مفتاحي."
وسرعان ما تجمع رهط من الجيران على الركب يشاركون الملاّ التفتيش. حتى قال الجار الأول وقد أعياه البحث: "أين أضعته؟"
"في البيت."
ربّاه! ولِمَ تفتش هنا إذن؟"
"لأن الضوء هنا أقوى."
ماذا يجديني نفعاً أن أفتش عن الله في الأماكن المقدسة وقد أضعته في قلبي؟
فتِّش عن الله حيث أضعته.
.
.
.
.
.
-24
السؤال
سأل الراهب: "هذه الجبال والأنهار والأرض والنجوم كلها - من أين جاءت؟"
فقال المعلم: "وسؤالك من أين جاء؟"
فتِّش في الداخل!
.
.
.
.
.25
الوِرْد
عاد الصوفي من الصحراء. قيل له: "أخبرنا، ماذا يشبه الله؟"
ولكن أنّى له أن يخبرهم ما اختبره في قلبه؟ وهل يُحشَر الله في كلمات؟
أخيراً رأى أن يلقنهم ورداً - ما أبعده عن الصحة، وما أقصره عن التعبير - لعل بعضهم يغريه أن يختبر الأمر بنفسه…
لكنهم تلقفوا الورد. جعلوه نصاً مقدساً. فرضوه على غيرهم كمعتقد مقدس. واحتملوا مشقات نشره في البلاد الغريبة. حتى إن بعضهم بذل حياته من أجله.
حزن الصوفي. لعله كان من الخير لو لم يقل شيئاً.
.
.
.
.
.-26
المستكشف
عاد الرحالة المستكشف إلى قومه، الذين كانوا تواقين لمعرفة شيء عن الأمازون. ولكن أنّى له أن يعرب بكلمات عن المشاعر التي فاضت في قلبه حين رأى الأزهار الغريبة وسمع أصوات الليل في الغابة، حين أحس بخطر الحيوانات المفترسة، أو جدّف بقاربه عبر منحدرات النهر الغادرة؟
قال لهم: "اذهبوا واكتشفوا بأنفسكم." ثم رسم لهم خارطة للنهر ترشدهم. أما هم فقد انقضوا على الخارطة، وأطّروها في دار البلدية، ثم استنسخوها. فكل من امتلك واحدة لنفسه ظن نفسه خبيراً بالنهر. أليس يعرف كل منعطف وانحناءة فيه؟ أليس يعرف مقدار عرض النهر وعمقه؟ أليس يحفظ غيباً أماكن الانحدار فيه ومواضع الشلالات؟
يقال إن البوذا كان يمتنع بإصرار عن الانسياق إلى الكلام على الله.
أغلب الظن أنه كان عالماً بمخاطر رسم الخرائط للمستكشفين النظريين.
.
.
.
.
.
.27
توما الأكويني يتوقف عن الكتابة
يروى أن توما الأكويني، واحد من أحذق اللاهوتيين في العالم، توقف فجأة عن الكتابة. وعندما شكا إليه أمينُ سرِّه بأن عمله لم يكن قد انتهى بعد، أجاب: "أيها الأخ ريجنالد، لقد
اختبرت منذ بضعة شهور شيئاً عن المطلق، بحيث أن كل ما كتبت في حياتي عن الله يبدو لي قبض الريح."
كيف يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك حين يصبح العالِم رائياً؟
عندما انحدر الصوفي من الجبل بادره الملحد قائلاً بتهكم: "ماذا جلبت إلينا من جنّة المسرّات التي كنتَ فيها؟"
أجاب الصوفي: "كنت أنوي ملء إزاري أزهاراً أقدمها لأحبائي لدى عودتي. لكني إذ كنتُ هناك سكرتُ بعبير الجنة فأفلت الإزار."
يعبِّر معلِّمو الزِنْ عن ذلك بإيجاز بليغ: "العارف لا يتكلم، المتكلم لا يعرف."
ويقول أبو يزيد البسطامي: "أبعد الخلق من الله أكثرهم إشارة إليه."
.
.
.
.
.
28
الدرويش المتوجِّع
كان أحد الدراويش جالساً بسلام قرب النهر، حين رأى عابرُ سبيل قذالَه المكشوف واستسلم لإغراء صفعه صفعةً مدوية. ولقد امتلأ عجباً من صوت كفِّه على الرقبة المكتنزة، لكن الدرويش المتوجِّع هبّ واقفاً ليردّ له الصفعة.
"رويدك ،" قال المعتدي. "تستطيع صفعي إن شئت. إنما أجبني أولاً على هذا السؤال: هل كان صوت الصفعة ناجماً عن يدي أم عن قذالك؟"
قال الدرويش: "أجب عن ذلك أنت. إن وجعي لن يسمح لي بالتنظير. بوسعك أن تهتم بذلك لأنك لا تحس بما أحس."
عندما يُختبَر الإله يتناقص إلى حد كبير نزوع المرء للتنظير.
.
.
.
.
.
-29
الشيطان وصديقه
ذهب الشيطان مرة في نزهة مع صديق له. فأبصرا أمامهما رجلاً ينحني ويلتقط شيئاً من الأرض.
سأل الصديق: "ماذا وجد هذا الرجل؟"
فقال الشيطان: "قطعة حقيقة."
سأل الصديق: "أفلا يزعجك ذلك؟"
فأجابه الشيطان: "لا. فسوف أدعه يجعل منها معتقداً."
المعتقد الديني شاخصة تشير إلى الطريق إلى الحقيقة. عندما تتشبث بالشاخصة تحول دونك والسير قُدُماً نحو الحقيقة لأنك تظن أنها بحوزتك أصلاً.
.
.
.
.
.
-30
مات نصر الدين
كان نصر الدين فلسفي المزاج: "الحياة والموت - من يستطيع أن يقول ما هما؟" وسمعته عرضاً زوجه التي كانت مشغولة بالمطبخ فقالت: "كلكم سواء أيها الرجال، تفتقرون تماماً إلى الحسّ العملي. بوسع أيٍّ كان أن يقطع بأنه عندما تيبس أطراف المرء وتبرد يكون قد مات."
أعجب نصر الدين بحكمة زوجه العملية. وذات مرة، بينما كان خارجاً في ثلج الشتاء، شعر بيديه ورجليه تخصِر برداً. فخطر له: "لابد أني ميت." ثم خطر بباله خاطر آخر: "ماذا أفعل رائحاً غادياً وأنا ميت؟ ينبغي أن أكون ممدداً أرضاً ككل الجثث." وذلك ما فعل.
بعد ساعة من الوقت، إذ وقع عليه فريق من المسافرين على جانب الطريق بدؤوا يتجادلون فيما إذا كان حياً أو ميتاً. أما نصر الدين فكان يتحرق إلى الصراخ: "ألا ترون يا حمقى أن أطرافي باردة ويابسة؟" إلا أنه كان أوعى من أن يقول ذلك، إذ إن الجثث لا تنطق.
خلص المسافرون أخيراً أنه ميت، ورفعوا الجثة على أكتافهم وهم ينتوون نقلها إلى المقبرة للدفن. وما كادوا يبتعدون قليلاً حتى وصلوا إلى مفترق طريقين. وللحال نشب بينهم جدال شديد حول أي الطريقين تؤدي إلى المقبرة. احتمل نصر الدين منهم ذلك حتى نفد صبره. ثم استوى جالساً وقال: "عذراً منكم أيها السادة، لكن الطريق إلى المقبرة هي التي على شمالكم. أعلم أن الجثث لا تنطق، لكني خالفت القاعدة هذه المرة فقط وأعدكم بأن لا يحدث ذلك مرة أخرى."
عندما تصطدم الحقيقة بمعتقد صلب، فإن الحقيقة هي الخاسرة عموماً.
من جهة أخرى، فإن كون المرء حياً من الوجهة السريرية لا يعني أبداً أنه حيّ من الوجهة الإدراكية. والمنطق والفلسفة لن يجدياه فتيلاً في بلوغ الإدراك.
.
.
.
.
.
.31
عظام لامتحان إيماننا
استوقف أحد العلماء ذات مرة فقيهاً مسيحياً كان يعتقد بصحة حرفية الكتاب وقال له: "خُلِقت الأرض بحسب الكتاب قبل حوالى خمسة آلاف سنة. لكننا اكتشفنا عظاماً تشير لوجود الحياة على الأرض قبل مليون سنة."
فكان جواب الفقيه على رأس لسانه: "لما خلق الله الأرض قبل خمسة آلاف سنة، تعمَّد وضع تلك العظام لكي يمتحن إيماننا ويرى إن كنا سنؤمن بكلامه أم بالبرهان العلمي."
برهان آخر على أن العقائد الصلبة تقود إلى تشويه الحقيقة.