التصور المادي للعالم هو "نموذج افتراضي" يصف واقعية العالم ذهنياً. وليس خبرة حسية خالصة مباشرة ، لاحظ هذه القضايا :
1. "الواقع المادي هو الوجود الحقيقي وليس هناك وجود وراءه من نوع مختلف"
2. "شكل الواقع المادي لا يعتمد على كيفية تصور المراقب له"
3. "وجود الواقع المادي ، العالم الخارجي ، لا يتوقف على التصديق به"
والآن أريد أن أسأل بنفس الطريقة :
1. هل الخبرات الحسية البحتة بالعالم الخارجي هي التي تنفي وجود عالم خارج العالم المحسوس ، أي ولأنك لا تحس بالوجود مادياً فهو معدوم ؟
لا بأس .. كبشري، أنت لا تحس مادياً بالماضي والمستقبل ، كما ولا تحس مادياً بما يقع خارج مجال إدراكك السمعي البصير اللمسي ، أي أن ما تعرفه حسياً على نحو مباشر مرهون دائماً بالمكان والزمان المعروضان عليك هنا والآن ، كل ما حدث في التاريخ أو سيحدث مستقبلاً غائب عن مجال تحسسك ، كل ما تعرفه عن الماضي هو الذكريات وكل ما تعرفه عن المستقبل هو التوقعات ، كل ما يحدث الآن في فرنسا واليابان ونيويورك وأصدقائك ومعارفك الذين لا يعيشون معك الآن غائب عن رؤيتك الحسية.
ومع ذلك أعتقد أنك تصدق بذلك النوع الغيابي من الوجود ، مع أنه غير محسوس مادياً ، وأعتقد أنك بنيت تصديقك به على "تصور عقلي" ، لا على خبرة حسية مباشرة وبالمثل ، بنيت إنكارك لما وراء المادة على تصور عقلي لما يجب عليه أن يكون العالم، لا على كشف حسي مباشر.
المادة بحد ذاتها كمعطى للإدراك ، لا تخبرك أنها الشيء الوحيد في الوجود أو أنها أصدق من غيرها ، أنت الذي تحكم عليها بذلك أو عدمه ...
2. هل الخبرات الحسية البحتة هي التي تنفي تغير الواقع المادي بحسب رؤية وتأثير الراصدين؟
هل الحس حقاً هو ما يقول لك أن صورة الموضوع المادي وهيكله الخارجي مستقل تماماً عن وعي المراقبين له ؟
هل تحس حقاً ب"صفة" ثبات الواقع المرصود واستقلاله عنك ، أم "تعتقد عقلياً" بهذه الصفة ؟
فكرة الثبات نفسها هل هي شيء محسوس ومادي ، المادة شيء محلي ومتغير وليس فيها أحكام عامة ، المادة هي مجموعة عناصر لانهائية ، ليس هناك"مادة" تحسها بجسدك ، ولكن أنت تحس "مواد فردية" وأما الوجود الذي تسميه مادة ، فهو إدراك عقلي لهذه المجموعة ، وبالتالي ، المادة بالنسبة للمعرفة الحسية الخالصة ،محض هيولى ، وتشكلها بهيئة معينة في لحظة معينة لا يعني على الإطلاق تشكلها نفس الهيئة في اللحظة التالية ، أي أن صفة الثبات نفسها هي استقراء عقلي لحالات اليولى المادية المحسوسة ، بسبب تكرار حالات معينة تطلق عليها اسم "واقع" و"ثابت" أو مستقل ، ولكن الحقيقة أن هذه "أحكام عقلية" على الواقع المحسوس ، أما المجال الحسي الخالص للمعرفة فلا يوجد فيه معنى للثبات أو للكلية ، .
فإذا كانت صفة الثبات للواقع المادي نفسها حصيلة استقراء العقل ، فكيف تعلم إذن أن الراصد لا يؤثر بالعالم الخارجي ، أو أن العالم الخارجي لا يتفاعل مع الراصد على مستوى أعمق من المادة الظاهرة ؟
هل المادة تبدو لك حقاً ثابتة ؟ ما هي المادة بالضبط ؟
هذه الأشياء التي تراها بحواسك وتسميها مواد، هي بحد ذاتها نتيجة تفاعلات ، هي بحد ذاتها ليست شيئاً مستقلاً وجودياً ، والنتائج تتغير إذا تغيرت أسبابها أو أنظمتها التوجيهية ، وعندما تقول إن الواقع المادي لا يمكن تغييره فأنت تريد التعبير عن أنّ "إن نظام السببية الموجه للواقع المادي الذي ترصده ، لينتج هذه النتائج بالضبط" هو نظام ميكانيكي أعزل عن الوعي والراصد والتأثيرات الفائقة للمادة الموضوعية ، ولكن أعد النظر في هذا مراراً وتكراراً ...
ربما يكون من الصحيح أن هناك نظاماً محكماً نهائياً يوجه الزمن نحو هيئته الظاهرية ، وهذا النظام لا يمكن التلاعب معه ، وهذا مختلف عن ما تقصده أنت ، أو يقصده المادي بشكل عام ، لأن المادي لا يقول أن هناك حكمة مهيمنة في تكوين العالم ، بقدر ما يصر على أن العالم لا يدخل في تكوينه قوى حيوية ( غير موضوعية ) ، فمبدأ كوبنهاغن مثلاً ورغم أنه يحكي عن العالم بصفته غير ثابت في نظام تكوينه ، ولكنه لا يتبع أسباباً فوق مادية ( غير موضوعية ) ....
أي أن العالم يصبح "وجود عبثي فوضوي" والشيء الوحيد الذي لا يمكن تغييره فيه ، هو العبثية نفسها واللاحياة.
وهنا أريد أن افهم بالضبط ، لماذا كلما أحكي مع مادي ، يقول لي "لا يمكنك تغيير الجدار الصلب ولا أدري ماذا" أنتم لا تعرفوني على الصعيد الشخصي ، من اين تعرفون أنه لا يمكنني فعل ذلك ؟ هناك الكثير من البشر يمكنهم تغيير الواقع ، ولكن المسألة لا تحدث بالطريقة التي تصورون أنها تحدث بها.
هي ليست مسألة تكارا لتفكير أو للتصور الذهني ، الأمر أقرب إلى المشاعر المركزة نحو تفعيل تغيير معين ، وهذه المشاعر طالما يقفصها العقل بأحكام مسبقة لا يمكن تحريرها لقوم بتوجيه المادة نحو التغيير.
هناك كتب رائعة للسيد علاء الحلبي يشرح فيها ذلك بالتفصيل ... أنصحك بالبحث عن اسمه والقراءة له قليلاً ...
3. ما هي الحقيقة وما الفرق بينها وبين الواقع ؟
ما تقوله الوضعية المنطقية ، هو نوع من أنواع "تصور العالم" ذهنياً ونحن نعرفه مسبقاً بالتلقين على نحو وراثي ، ولا يحتاج للشرح وكأنه نظرية معقدة ، والأهم من ذلك أن هذا "التصور"أو النموذج المادي للعالم ليس عليه برهان ... يعتمد في إثباته على أسلوب التسليم المسبق والتوكيد ... وغض النظر عن الإدراك ...
العالم المادي حسب ما تختبره بالحس الخالص والإدراك المباشر ، عالم منفصل عن إدراكك له ، عندما تخضع فهمك لخبرتك الحسية إلى معيار افتراضي مسبق.
الاختبار الخالص يعني "تأمل الوجود المُدرَك" وليس الحكم عليه ذهنياً حسب ظاهره ،
دون تأمل عميق ، حقاً لا يمكنك أن تغير الواقع لأنك لن تفهم الطريقة أولن تتصل باسباب التغيير الحقيقية ، ولن تكون أكثر من متلقي سالب للمعطيات الخارجية.
لن تفعل أي شيء جديد ( ليس فقط أن تفعل ) أو تستطيع أن تراه أكثر من صخرة عابثة.
الخطأ الذي تقعون فيه دائماً هو أنكم تساوون بين "النموذج المادي للعالم" وبين الواقع بحد ذاته.
والواقع بحد ذاته لا يخبرك أنه منفصل عن كيفية إدراكك للأشياء ، اصلاً أنت لا ترى ولا تعرف إلا إدراكك للأشياء، لا يوجد اتصال بينك وبين شيء غير مُدرَك ، والواقع هو الإدراكات التي لا يمكنك التحكم بها أو تجنبها فتقع على وعيك رغماً عنك ( دون أن تعرف كيف يحدث ذلك) ، وهذا لا يجعل الواقع شيئاً مغايراً للإدراك. مثير للإزعاج نوعاً ما أنه مذهب يصر إصراراً مطلقاً دون أي تفهم ، أن الطفل والبالغ الراشد ، وكذلك العالم والجاهل ، المتصوف والمادي ، الحيوان والإنسان وكل من يمتلك جملة عصبية يعرفون نفس العالم ونفس الأشياء ونفس الحقيقة وليس بينهم تمايز علمي نوعي ، ويختلفون فقط في كمية تحصيل التفاصيل وقولبتها ذهنياً.