سيد الأحجار السبعة
عابر الزمن الثالث
- المشاركات
- 882
- مستوى التفاعل
- 1,659
غاية الحياة الوحيدة هي "التطور" إلى اللانهاية، بالنسبة للعالم والفرد، تستدعي آلية التطور كسب العناصر المفيدة للتفاعل بين الفرد والعالم، وإزالة العناصر الضارة وغير المفيدة، وهذا التطور لن يتوقف عند حد معين، بل يجب أن يستمر بلا نهاية.
يطرح الماسوني "حنا أبي رشد" هذا المبدأ في مقدمة "دائرة المعارف الماسونية".
كل الكتّاب الماسونيين الرئيسيين ينطلقون دائماً من هذا المعنى كقاعدة لبناء نظرياتهم، ويعبر الكلمات في أهم الأعمال الماسونية والثِّيوصوفية الكلاسيكية ، إنه نقطة المركز لمدار مقولات "كشف الحجاب عن إيزيس" و"التعاليم السرية لكل العصور" و"القانون".
تعتمد النظريات العدمية والوجودية على هذا المبدأ كنواة لكل بنائها، مثل نظرية "الإنسان الخارق" و"البعث الأبدي" ، و"الوجودية الإنسانية" و"أسطورة سيزيف".
لنسمي هذا المبدأ ب"ازدواجية العدمية الوجودية والعبثية الإنسانية" أو مثنوية "التطور-العدم". ويمكن التعبير عنه في عبارتين :
1. الزمان العدمي : الوجود عديم القيمة والجوهر، والزمان هو حركة العدم الظاهرية.
2. الحياة العبثية : القيمة الوحيدة التي يمكن تحقيقها من خلال سرديات الزمان العدمي هي تجاهل العدم، وبالتالي تجاهل الواقع، وعيش حياة دون أساس أنطولوجي.
أتوسم بالقارئ اليقظ أن يلاحظ العلاقة الأسرية الحميمة بين "قيمة التطور" و"عدمية الحياة" في كل الكتابات العالمية، أن تكون الحياة عديمة القيمة، هو أن يكون التطور غاية الحياة، وقيمة التطور تتحقق ضمن حياة لا وجود جوهري لها، كما لو أن التطور هو "رفض" الاعتراف بعدمية الزمان الذي ليس له جوهر.
لو كانت الحياة قيّمة فما الذي عساه يجينه الكائن من السعي إلى التطور ؟
لو كان التطور غير مهم فما الذي سيكون مهماً ؟
_ العالم القيمّ غير العدمي سيكون قيّماً بذاته، ستكون قيمه جوهرية الوجود، سيكون المعنى حاضراً مطلق، وسيكون التطور (والحركة) فعلاً مشاكساً وعبثياً، وقد يكون مضاداً للقيم.
_ إن الفعل الوحيد الذي يمكن أن يكون له مغزى من أي نوع في حياة تعاش في زمن وهمي ليس له جوهر وحقيقة مطلقة ينبعث منها، لها هو "التطور" الدائم والحركة اللانهائية.
ولكن من أين يأخذ التطور مركزيته في الزمان العدمي ؟
في سيناريو العالم المكوّن عبر الزمان العدمي ستكون المعاني الحيوية (مثل "القيم" و"النور" و"الجمال" و"الحقيقة") غير جوهرية الحضور، ولا يمكن أن يلاحظها الوعي إلا كخصائص تنبثق من حالات زمنية ظاهرية بطريقة ما، سيتمكن الوعي من التعرف على القيم فقط من خلال رصده للكائنات الموضوعية التي تتجلى المعاني الحيوية عبر تفاعلاتها، مثل تجلي العدالة والتنظيم" في ظاهرة "المجتمع" وتجلي "الجمال" في ظاهرتي المرأة والطبيعة، وتجلي النور في ظاهرة "الأخلاق" وستكون الحقيقة معادلة للكشف عن حل لغز ظاهري، أي إكمال الظاهرة الناقصة.
عدمية العالم هي غياب القيم بذاتها، وانبثاقها من الظواهر الموضوعية بحيث تسبق الظاهرة القيمة في الوجود، ولا يوجد معنى اسمه "الحق بذاته" في الزمان العدمي، فالحق هو شرح للملابسات في ظاهرة معينة بحيث تتحول إلى ظاهرة اكثر وضوحاً وتنتفي الافتراضات مع زيادة وضوح الظاهرة، ولكن الحقيقة ليست ذات وجود مختلف عن الظاهر، أو غير قابل للظهور، أو أكبر من محض الظهور.
وكذلك هو معنى "الجمال" الذي سوف يكون غائباً في الزمان العدمي، ما دام لا يتصل بظاهرة مادية محددة لها خصائص مريحة وممتعة.
ومن دون بشر وأخلاق تمارس من قبل كائنات بشرية، فلا معنى للقيم النورانية مثل "الرحمة" و"الحكمة" و"القوة".
في الزمان العدمي، تنبثق القيم عن الظاهرة نفسها، بينما الجوهر الحقيقي لما يتحسس كقيم هو "ظاهرة جافة وميتة"، ولكن وعي الراصد يعطيها "معنىً ما" ، مثلاً : ظاهرة "إنسان شجاع يدافع عن إنسان ضعيف أمام حاكم ظالم"، إذا أخذت الصورة بحيزها الظاهري فإنها لا تحمل قيمة جوهرية. خصوصاً، إذا كانت عملية "تصوير مشهد تلفيزيوني" لشخصيات وهمية.
الحَكَم الفصيلي الذي يحدد هل القيم في الظاهرة جوهرية أم لا، هو مدى "واقعيتها" ، أي أن يكون هناك هو أكثر من حدود المشهد الظاهري، أن يكون هناك فعلاً شخص ينصر مظلوماً، ليس فقط بالنسبة للراصد الذي لا يعرف خلفية الموضوع، بل بالنسبة للوجود بحد ذاته، وهذا يعني أن الوجود الحقيقي المستقل عن الراصدين هو ما يعطي للظاهرة قيمة جوهرية.
إذا لم يكن هناك سبيل للوصول إلى "ما وراء حدود الظاهرة" ومعرفة حقيقتها بذاتها فستكون عدمية ما لم يعترف الوعي ذهنياً بطريقة ما بأن لها تأثيراً عليه ودلالة عنده، بنفس الطريقة : لا يمكن إعطاء قيمة لشيء لا تتبدى قيمته من ذاته، وهنا تأتي قوة الحقيقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه على الوعي "إلى أي حد يمكن التحقق من واقعية الظاهرة" ؟
ماذا لو كان "كل العالم مشكوكاً فيه" ؟ أو بالأحرى ماذا لو كانت "عملية رصد العالم" تعاني من اعتلال جوهري يمنع إدراك الحقيقة دائماً ؟
ربما يصعب على المرء أن يشك ب"كامل العالم" من حيث المبدأ، ولكن حين يتذكر أنه لا يعرف العالم ، بل "يعرف العالم الظاهر له فردياً" والمبني على علاقته الخاصة بالعالم ورصده الخاص له، فسيتذكر أنه في الحقيقة لا يشك بالعالم بقدر ما يشكك في العالم الذي يعرفه، أو في ما يتبدى له، أو بالأحرى ، في هندسة الظاهر...
في ظل الزمان العدمي يكون الظاهر "كل شيء قابل للإدراك والرصد والتفاعل معه والحكم عليه"، مما يعني غياب القيم الجوهرية ما وراء الظاهرة، وحينها سيكون الشيء قيماً بقدر ما يعطيه الراصد قيمة تأويلية، ومن هذه النقطة بالذات تنشأ عدمية العالم.
وفي حال قرر الراصد أن يترك كل مجال ذهني للحكم على الأشياء، ويراقبها كما عليه بحد ظهورها، فسيجد أن العالم المادي المعزول عن القيم النفسية أصبح جافاً ومملاً وبائساً وتعيساً وبالكاد يمكنه الاختناق فيه بمنأى وأمان، كما لو تحولت جنة بيته إلى صحراء قاحلة وراءها صحراء كونية لا أمل فيها لنمو شجرة واحدة أو رؤية لون بهيج ذات يوم.
هو ذا كذلك العالم بحدود الظاهر ...
ومن هذا المنظور العدمي، كيف يمكن العيش في هذا العدم القاسي، دون التخلي عن الشيء الوحيد القيّم في الإنسان وهو "مشاعره وذاته" ؟ الحياة في الزمن العدمي بالنسبة لإنسان يرفض أن يكون محض آلة عضوانية ويرفض التخلي عن وعيه ممكنة في حالة واحدة وهي "نسيان حقيقة العالم" الجافة والقاسية، وهذا النسيان، الذي يمارسه كائن يشعر، من خلال بناء الحواجز بينه وبين الواقع الذي لا يريد أن يشعر به، والتي تتمثل في المجتمع الإنساني والحضارة الإنسانية والفنون والعلوم والثقافات والأرياف والمدن والزرائب وناطحات السحاب وهموم البروليتاريا ومطامح الرأسمالية وسائر "إلهاء الذات" اللانهائي عن أي مجال يصل مع "الغابة الجحيمية" التي تحيط به من كل جانب، هو بالضبط ما يسمى "التطور" وهو بالضبط ما يجعل الإنسان "يعيش في ذهنه" و"يغترب عن الواقع" و"يستمتع في الجحيم" إذا جاز التعبير.
الصمت يعني التذكر ...
الحركة المستمرة هي الفعل الوحيد الذي يسمح بالنسيان، النموذج الأعظم للحركة التي تساعد على النسيان هي الحركة التي تفتقد الهدف وتفتقد الدافع لو أمكن.
توقف للحظة واحدة عن التفاعل مع "عالمك الذهني" وستبدأ ذاكرتك بالتنفس.
توقف لساعة واحد وستجد أنك تذكرت الكثير الكثير من الأشياء التي فوتتها على نفسك، ومن الأمور التي يجب حقاً القيام بها هنا والآن.
توقف ليوم واحد وستجد أنك تذكرت كامل خط حياتك.
توقف لأسبوع واحد وستجد أنك كنت تعيش في الجحيم! ولكن لم تكن واعياً بذلك..
محاولة البحث عن "المتعة والسعادة" ستؤدي إلى محاولة الحركة وتجنب الصمت، والاستمرار في الحركة يهلي الكائن بالنتيجة والمسار، وهذا ما سيجعل الكائن يغترب عن الواقع والحقيقة.
أثبتت التجارب أن من الممكن للإنسان أن يتكيف مع أي نمط حياة وأي زمن مهما كان جحيمياً بالاعتماد على الحركة والنسيان، هل تذكر "العبيد" ؟
كان يقال لهم "سيتم إعدامكم اليوم" وكانوا يسيرون في الطوابير من أجل الإعدام، لم يفكروا بالمقاومة حتى، هل تعرف ما السبب ؟ إنهم مشغولون بالتفكير بالإعدام والسخط على الحياة وتحليل عقلية الظالم.
حتى تستمر الحركة، ومن أجل نسيان مزمن نموذجي وممتع، لابد أن تأخذ هذه الحركة طابعاً منظوماتياً وهندسياً فكرياً يجعلها "ماتريكس" تعطي مجالات جديدة وجديدة للحركة وتمنع أي محاولة للخروج عن سرديتها، التي توجد ضمن حدود الذهن وحده، وهذه الحركة الهندسية هي التي تسمى حديثاً ب"التطور".
تنبأ الكاتب المصري "عبد الوهاب المسيري" بأن مسير الحضارة الإنسانية يوجه الناس نحو "الجنينية" أو "النوسان الوجودي" ، يتوقف الوعي عن السعي نحو الاقتراب من الحقيقة وتعزيز الاتصال مع الوجود الحقيقي"، ولكنه يسعى نحو "مزيد من الانعزال عن الحقيقة" وفقدان المزيد من الملكات الطبيعية والاستعاضة عنها بالآلات والآخرين، وفقدان الاتصال بالوجود والعيش في الذهن مطلقاً، وذات يوم سوف يقطع التطور التقني للحضارة الاتصال بين "وعي الإنسان" و"العالم الواقعي" حتى من حيث الإحساس المادي، وسيعيش الإنسان في حدود ذهنه ويسلم وجوده المادي بالكامل ل"الوسيلة" وهي الآلات، ومن يسيطر عليها، وستخلو حياته من معالم التجربة الإدراكية الحيوية المباشرة، حتى تلك البسيطة والحيوانية مثل رائحة العرق وملمس الجلد الطبيعي.
ما تقوله الحضارة اليوم يطابق على كلام المسيري قبل 30-40 سنة، حين كان الذكاء الاصطناعي خيالاً علمياً بالنسبة للإنسان، ينحو الناس اليوم أكثر فأكثر إلى التخلي عن الجسد، وبالتالي عن الواقع المادي، نتيجة التطور المستمر، ولكن بمستوى أعمق، نتيجة التفاعل مع الفضاء العدمي، نتيجة حصر المبحوث عنه في الوجود ضمن الحدود الظاهرية، نتيجة انطلاق كل الرغبات والدوافع من مستوى ظاهري ، ومحيط عبثي جعل العالم مجالاً للظلمات والقسوة وجعل من الاتصال معه عيشاً في الجحيم، أصبحت النفوس تقاوم أجسادها ... كان لابد على سيزيف أن يحتال احتياله الأخير و"ينسى وجوده المادي" حتى ينسى معاناته التي لا معنى لها، فينسى جسمه وحركته.. وينسى صخرته ...
لو كانت الحياة قيّمة فما الذي عساه يجينه الكائن من السعي إلى التطور ؟
لو كان التطور غير مهم فما الذي سيكون مهماً ؟
_ العالم القيمّ غير العدمي سيكون قيّماً بذاته، ستكون قيمه جوهرية الوجود، سيكون المعنى حاضراً مطلق، وسيكون التطور (والحركة) فعلاً مشاكساً وعبثياً، وقد يكون مضاداً للقيم.
_ إن الفعل الوحيد الذي يمكن أن يكون له مغزى من أي نوع في حياة تعاش في زمن وهمي ليس له جوهر وحقيقة مطلقة ينبعث منها، لها هو "التطور" الدائم والحركة اللانهائية.
ولكن من أين يأخذ التطور مركزيته في الزمان العدمي ؟
في سيناريو العالم المكوّن عبر الزمان العدمي ستكون المعاني الحيوية (مثل "القيم" و"النور" و"الجمال" و"الحقيقة") غير جوهرية الحضور، ولا يمكن أن يلاحظها الوعي إلا كخصائص تنبثق من حالات زمنية ظاهرية بطريقة ما، سيتمكن الوعي من التعرف على القيم فقط من خلال رصده للكائنات الموضوعية التي تتجلى المعاني الحيوية عبر تفاعلاتها، مثل تجلي العدالة والتنظيم" في ظاهرة "المجتمع" وتجلي "الجمال" في ظاهرتي المرأة والطبيعة، وتجلي النور في ظاهرة "الأخلاق" وستكون الحقيقة معادلة للكشف عن حل لغز ظاهري، أي إكمال الظاهرة الناقصة.
عدمية العالم هي غياب القيم بذاتها، وانبثاقها من الظواهر الموضوعية بحيث تسبق الظاهرة القيمة في الوجود، ولا يوجد معنى اسمه "الحق بذاته" في الزمان العدمي، فالحق هو شرح للملابسات في ظاهرة معينة بحيث تتحول إلى ظاهرة اكثر وضوحاً وتنتفي الافتراضات مع زيادة وضوح الظاهرة، ولكن الحقيقة ليست ذات وجود مختلف عن الظاهر، أو غير قابل للظهور، أو أكبر من محض الظهور.
وكذلك هو معنى "الجمال" الذي سوف يكون غائباً في الزمان العدمي، ما دام لا يتصل بظاهرة مادية محددة لها خصائص مريحة وممتعة.
ومن دون بشر وأخلاق تمارس من قبل كائنات بشرية، فلا معنى للقيم النورانية مثل "الرحمة" و"الحكمة" و"القوة".
في الزمان العدمي، تنبثق القيم عن الظاهرة نفسها، بينما الجوهر الحقيقي لما يتحسس كقيم هو "ظاهرة جافة وميتة"، ولكن وعي الراصد يعطيها "معنىً ما" ، مثلاً : ظاهرة "إنسان شجاع يدافع عن إنسان ضعيف أمام حاكم ظالم"، إذا أخذت الصورة بحيزها الظاهري فإنها لا تحمل قيمة جوهرية. خصوصاً، إذا كانت عملية "تصوير مشهد تلفيزيوني" لشخصيات وهمية.
الحَكَم الفصيلي الذي يحدد هل القيم في الظاهرة جوهرية أم لا، هو مدى "واقعيتها" ، أي أن يكون هناك هو أكثر من حدود المشهد الظاهري، أن يكون هناك فعلاً شخص ينصر مظلوماً، ليس فقط بالنسبة للراصد الذي لا يعرف خلفية الموضوع، بل بالنسبة للوجود بحد ذاته، وهذا يعني أن الوجود الحقيقي المستقل عن الراصدين هو ما يعطي للظاهرة قيمة جوهرية.
إذا لم يكن هناك سبيل للوصول إلى "ما وراء حدود الظاهرة" ومعرفة حقيقتها بذاتها فستكون عدمية ما لم يعترف الوعي ذهنياً بطريقة ما بأن لها تأثيراً عليه ودلالة عنده، بنفس الطريقة : لا يمكن إعطاء قيمة لشيء لا تتبدى قيمته من ذاته، وهنا تأتي قوة الحقيقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه على الوعي "إلى أي حد يمكن التحقق من واقعية الظاهرة" ؟
ماذا لو كان "كل العالم مشكوكاً فيه" ؟ أو بالأحرى ماذا لو كانت "عملية رصد العالم" تعاني من اعتلال جوهري يمنع إدراك الحقيقة دائماً ؟
ربما يصعب على المرء أن يشك ب"كامل العالم" من حيث المبدأ، ولكن حين يتذكر أنه لا يعرف العالم ، بل "يعرف العالم الظاهر له فردياً" والمبني على علاقته الخاصة بالعالم ورصده الخاص له، فسيتذكر أنه في الحقيقة لا يشك بالعالم بقدر ما يشكك في العالم الذي يعرفه، أو في ما يتبدى له، أو بالأحرى ، في هندسة الظاهر...
في ظل الزمان العدمي يكون الظاهر "كل شيء قابل للإدراك والرصد والتفاعل معه والحكم عليه"، مما يعني غياب القيم الجوهرية ما وراء الظاهرة، وحينها سيكون الشيء قيماً بقدر ما يعطيه الراصد قيمة تأويلية، ومن هذه النقطة بالذات تنشأ عدمية العالم.
وفي حال قرر الراصد أن يترك كل مجال ذهني للحكم على الأشياء، ويراقبها كما عليه بحد ظهورها، فسيجد أن العالم المادي المعزول عن القيم النفسية أصبح جافاً ومملاً وبائساً وتعيساً وبالكاد يمكنه الاختناق فيه بمنأى وأمان، كما لو تحولت جنة بيته إلى صحراء قاحلة وراءها صحراء كونية لا أمل فيها لنمو شجرة واحدة أو رؤية لون بهيج ذات يوم.
هو ذا كذلك العالم بحدود الظاهر ...
ومن هذا المنظور العدمي، كيف يمكن العيش في هذا العدم القاسي، دون التخلي عن الشيء الوحيد القيّم في الإنسان وهو "مشاعره وذاته" ؟ الحياة في الزمن العدمي بالنسبة لإنسان يرفض أن يكون محض آلة عضوانية ويرفض التخلي عن وعيه ممكنة في حالة واحدة وهي "نسيان حقيقة العالم" الجافة والقاسية، وهذا النسيان، الذي يمارسه كائن يشعر، من خلال بناء الحواجز بينه وبين الواقع الذي لا يريد أن يشعر به، والتي تتمثل في المجتمع الإنساني والحضارة الإنسانية والفنون والعلوم والثقافات والأرياف والمدن والزرائب وناطحات السحاب وهموم البروليتاريا ومطامح الرأسمالية وسائر "إلهاء الذات" اللانهائي عن أي مجال يصل مع "الغابة الجحيمية" التي تحيط به من كل جانب، هو بالضبط ما يسمى "التطور" وهو بالضبط ما يجعل الإنسان "يعيش في ذهنه" و"يغترب عن الواقع" و"يستمتع في الجحيم" إذا جاز التعبير.
الصمت يعني التذكر ...
الحركة المستمرة هي الفعل الوحيد الذي يسمح بالنسيان، النموذج الأعظم للحركة التي تساعد على النسيان هي الحركة التي تفتقد الهدف وتفتقد الدافع لو أمكن.
توقف للحظة واحدة عن التفاعل مع "عالمك الذهني" وستبدأ ذاكرتك بالتنفس.
توقف لساعة واحد وستجد أنك تذكرت الكثير الكثير من الأشياء التي فوتتها على نفسك، ومن الأمور التي يجب حقاً القيام بها هنا والآن.
توقف ليوم واحد وستجد أنك تذكرت كامل خط حياتك.
توقف لأسبوع واحد وستجد أنك كنت تعيش في الجحيم! ولكن لم تكن واعياً بذلك..
محاولة البحث عن "المتعة والسعادة" ستؤدي إلى محاولة الحركة وتجنب الصمت، والاستمرار في الحركة يهلي الكائن بالنتيجة والمسار، وهذا ما سيجعل الكائن يغترب عن الواقع والحقيقة.
أثبتت التجارب أن من الممكن للإنسان أن يتكيف مع أي نمط حياة وأي زمن مهما كان جحيمياً بالاعتماد على الحركة والنسيان، هل تذكر "العبيد" ؟
كان يقال لهم "سيتم إعدامكم اليوم" وكانوا يسيرون في الطوابير من أجل الإعدام، لم يفكروا بالمقاومة حتى، هل تعرف ما السبب ؟ إنهم مشغولون بالتفكير بالإعدام والسخط على الحياة وتحليل عقلية الظالم.
حتى تستمر الحركة، ومن أجل نسيان مزمن نموذجي وممتع، لابد أن تأخذ هذه الحركة طابعاً منظوماتياً وهندسياً فكرياً يجعلها "ماتريكس" تعطي مجالات جديدة وجديدة للحركة وتمنع أي محاولة للخروج عن سرديتها، التي توجد ضمن حدود الذهن وحده، وهذه الحركة الهندسية هي التي تسمى حديثاً ب"التطور".
تنبأ الكاتب المصري "عبد الوهاب المسيري" بأن مسير الحضارة الإنسانية يوجه الناس نحو "الجنينية" أو "النوسان الوجودي" ، يتوقف الوعي عن السعي نحو الاقتراب من الحقيقة وتعزيز الاتصال مع الوجود الحقيقي"، ولكنه يسعى نحو "مزيد من الانعزال عن الحقيقة" وفقدان المزيد من الملكات الطبيعية والاستعاضة عنها بالآلات والآخرين، وفقدان الاتصال بالوجود والعيش في الذهن مطلقاً، وذات يوم سوف يقطع التطور التقني للحضارة الاتصال بين "وعي الإنسان" و"العالم الواقعي" حتى من حيث الإحساس المادي، وسيعيش الإنسان في حدود ذهنه ويسلم وجوده المادي بالكامل ل"الوسيلة" وهي الآلات، ومن يسيطر عليها، وستخلو حياته من معالم التجربة الإدراكية الحيوية المباشرة، حتى تلك البسيطة والحيوانية مثل رائحة العرق وملمس الجلد الطبيعي.
ما تقوله الحضارة اليوم يطابق على كلام المسيري قبل 30-40 سنة، حين كان الذكاء الاصطناعي خيالاً علمياً بالنسبة للإنسان، ينحو الناس اليوم أكثر فأكثر إلى التخلي عن الجسد، وبالتالي عن الواقع المادي، نتيجة التطور المستمر، ولكن بمستوى أعمق، نتيجة التفاعل مع الفضاء العدمي، نتيجة حصر المبحوث عنه في الوجود ضمن الحدود الظاهرية، نتيجة انطلاق كل الرغبات والدوافع من مستوى ظاهري ، ومحيط عبثي جعل العالم مجالاً للظلمات والقسوة وجعل من الاتصال معه عيشاً في الجحيم، أصبحت النفوس تقاوم أجسادها ... كان لابد على سيزيف أن يحتال احتياله الأخير و"ينسى وجوده المادي" حتى ينسى معاناته التي لا معنى لها، فينسى جسمه وحركته.. وينسى صخرته ...
التعديل الأخير: